د. حسين الهنداوي
تسمح لنا مضامين عدد مهم من النصوص والمواقف والشعارات العائدة الى أنظمة او تجارب فاشية في دول متخلفة او "عالمثالثية" اذا جاز القول، بالاستنتاج بان الرؤى الايديولوجية التي تنطلق منها او تقف خلفها، تستلهم او تقلد الكثير من افكار وأساليب الانظمة الفاشية الرئيسية التي اكتسحت معظم اوروبا الغربية خلال النصف الأول من القرن العشرين وهيمنت عليها بقوة، قبل ان تندحر في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا سيما النظامان النازي في المانيا بزعامة ادولف هتلر والفاشي في إيطاليا بزعامة بنيتو موسوليني، رغم ان كل تجربة تأخذ في البلدان المختلفة اشكالا وأسماء مختلفة تبعا لاختلاف الظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية والاهداف السياسية الخاصة بكل منها.
وهذا الاستلهام طبيعي جدا وحتمي الى حد بعيد، نظرا الى ان التجارب الهجينة، وفي مقدمتها النظم الفاشية في العالم الثالث، تقتات دائما من الخزين الأيديولوجي للتجارب السابقة وتقاليدها وخاصة الكبيرة، وحتى الاستفادة من مكاسبها احيانا، مادام الامر يتعلق بجماعات متماثلة الى حد كبير في جوهر تكوينها الطبقي والفكري وحتى في غاياتها السياسية، وهو ما يشجع عليه التراث الفاشي نفسه، الحاضر في الذاكرة والغني بالدروس لديها الى حد كبير. فالنازية مثلا، اخذت الكثير من الأفكار والممارسات والطقوس والمظاهر الاحتفالية من الفاشية الايطالية، فيما ابدى هتلر اعجابا دائما واحتراما خاصا لموسوليني، معتبراً اياه معلماً عبقرياً، رغم ان النازية هي حركة اصيلة بذاتها، ومتباهية بنقائها الجرماني الآري، وليست تقليدا او نسخة المانية عن أي فاشية اخرى.
وذات الشيء بالنسبة للأنظمة الفاشية التي نجحت في اخذ السلطة في دول اوروبية أخرى، خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كنظام حزب "الكتائب" بزعامة الجنرال فرانثيسكو فرانكو الذي حكم اسبانيا من عام 1939 حتى وفاته في 1975، ونظام حزب الجنرال سان لازار الذي حكم البرتغال بين عامي 1933 و1968، و"حزب الصليب المُسهّم" بقيادة فيرينتس سالاشي، الذي حكم هنغاريا لفترة قصيرة بين 1944 و1945، وحزب "الشبان الوطنيين" بزعامة الجنرال يوانيس متاكزاس في اليونان بين عامي 1936 و1941 كما ظهرت طغم فاشية أخرى في رومانيا ممثلة بـ"حزب "الحرس الحديدي" وكذلك احزاب نازية فرعية في كرواتيا وبلغاريا وعدد آخر من البلدان الأوروبية وفي اليابان واستراليا ايضا.
فمن الواضح، من خلال وثائقها وشعاراتها الرسمية، ان كل هذه الأحزاب والحكومات الفاشية الأخيرة استلهمت او قلدت الحزب الفاشي الإيطالي او النازي الألماني سواء من جهة الافكار كتمجيد القوة، والتفوق العرقي، وتأليه القائد والعداء للشيوعية، او من جهة الطقوس والاشارات المختلفة ومنها اتخاذ شعار الصليب المعقوف النازي الشهير شعارا لها. بل تفيد حقائق تاريخية ان معظم الحركات الفاشية والنازية الأوروبية الاخرى، مدينة بوجودها للنظام الهتلري وكانت مدعومة منه غالبا وتابعة طواعية له. وهذا الحال امتد الى دول غير أوروبية أحيانا لا سيما في أمريكا الجنوبية كالحركة الفاشية الأرجنتينية بقيادة الجنرال باوتيستا مولينا الذي كان يقدم نفسه على أنه "هتلر الأرجنتين" زاعما ان لديه علاقات وثيقة مع ألمانيا النازية. وكذلك في الشرق الأوسط كايران حيث ظهر الحزب القومي الفاشي (أزور) (بالفارسية "حزبي كابود")، المشهور باسم ميليشيا "القمصان السوداء" (سیاه پوشان)، الذي أسسه حبيب الله نوبخت، و"حزب ايران الجديد" المعروف باسم "الترقي" الذي أسسه عبد الحسين تيمورتاش في 1927 وقيل انتقل لاحقا لخدمة المخابرات البريطانية. اما في مصر فقد تأسس حزب "مصر الفتاة" في عام 1933 بزعامة احمد حسين فيما نشط "نادي المثنى" في العراق بتعميق التعاون والاتصالات مع عدد من كبار المسؤولين في النظام النازي.
بلا ريب ان هدف تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر من الاستعمار الغربي لا سيما البريطاني- الفرنسي كان الدافع الظاهري وربما الاصلي وراء ظهور هذه التنظيمات والجماعات الفاشية وامثالها في دول عربية او إسلامية او غيرها من دول العالم الثالث. لكن من الوهم الجسيم بالمقابل التصور انها اقل "اصالة فاشية" من نماذجها الاصلية في المانيا او إيطاليا او اسبانيا على اساس الاعتقاد بان الأمم المضطهدة او غير الأوروبية او غير المسيحية او الدول المستعمرة سابقا او الفتية على تضاد مسبق او بديهي مع "النزعة الفاشية" بزعم ان النظرية الفاشية ايطالية كاثوليكية بامتياز او ان النازية الألمانية جرمانية لوثرية بامتياز او ما شابه. فنحن نرى ان الفاشية ذات طبيعة واحدة في كل زمان ومكان وهي ان تكون الوجه المتوحش للهيمنة الشمولية الاحتكارية للرأسمالية العالمية والقائمة على مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" مهما كانت طبيعة ومقتضيات هذه الأخيرة. وهذا الاستنتاج الذي يصدق على التنظيمات الفاشية والنازية التي ظهرت في العالم الثالث هو ما نسعى الى اضاءته كحقيقة موضوعية أولى من خلال نماذج ملموسة، يقترن بحقيقة تاريخية أخرى وهي ان هذه التنظيمات، وجماعات اليمين المتطرف عموما، غيرت موقفها تماما بعد اندحار النازية منتقلة من معاداة الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الى الولاء المطلق لها والنشاط لمصلحة مخططاتها والتي تمحورت حول هدف واحد وهو الانتصار على الشيوعية ممثلة بالاتحاد السوفيتي في "حرب باردة"، ساحتها العالم اجمع لا سيما العالم الثالث الامر الذي دفع واشنطن الى استخدام وابتكار كل الوسائل الممكنة وفي المقدمة منها احياء ودعم الجماعات والميليشيات الفاشية والنازية القديمة واعداء الشيوعية والديمقراطية عموما لاستخدامهم كماشة نار محلية في ارتكاب كل ما من شأنه المساهمة في تحقيق ذلك الهدف الذي بدا مصيريا بالنسبة للغرب الرأسمالي الذي شعر بخطر حقيقي امام انتصار الاحزاب الشيوعية في الصين، وإقدام موسكو على ضم عدة بلدان من أوروبا الشرقية للاتحاد السوفييتي (كاستونيا ولاتفيا وليتوانيا ومولدوفيا)، أو جعلها تحت وصايته (كألمانيا الشرقية وبولندا وبلغاريا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وألبانيا)، الامر الذي يفسر دوافع الرئيس الأميركي هاري ترومان في عام 1947 بالإعلان عن عزمه على التصدي للتمدد السوفياتي عبر اعتماد إستراتيجية "احتواء" لهذا الغرض، وتمثلت باطلاق "مشروع مارشال" لإعادة بناء الدول الغربية التي دمرتها الحرب، وانشاء وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي اي)، ومنصب مدير الاستخبارات المركزية (دي سي اي) كرئيس لكل أجهزة الاستخبارات في الولايات المتحدة. ان تنفيذ بعض اسس هذه الاستراتيجية تحديدا هو الذي يفسر أسباب الوجود القوي والحاسم في الواقع للمخابرات الامريكية والبريطانية وراء نجاح سلسلة الانقلابات العسكرية الدموية التي حصلت في عدد من الدول الافريقية والآسيوية واللاتينية خلال الحرب الباردة واسفرت عن صعود أنظمة فاشية موالية لحلف واشنطن – لندن. والحال ان وجود جنرالات يحملون علنا او ضمنا، توجهات فاشية او نازية على رأس هذه الانقلابات التي يجمع المؤرخون على ان الدعم الأمريكي-البريطاني المباشر كان السبب الرئيسي واحيانا الوحيد في نجاحها الامر الذي يفضحه أيضا تماثل سيناريو الخطط الانقلابية والقوى الفاعلة والآليات والاهداف المعتمدة هنا او هناك والتواطؤ الإعلامي والدبلوماسي الغربي لطمس ضخامة الجرائم التي ارتكبت خلالها.
الأكثر اثارة، هو ان سيناريو هذه الانقلابات يبدو كما لو كان تكرارا حرفيا لما بات يعرف بـ "طريق جاكرتا"(The Jakarta Way)، الذي تم اعتماده مرارا، وبالارتباط بفترة الحرب الباردة دائما، في عدد من البلدان المستقلة حديثا مع ما يقترن به ذلك من مذابح وجرائم ووقائع، وهو ما نلاحظه بدءاً من انقلاب 19 آب 1953 في ايران الذي صممته ونفذته معا وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية الـ (CIA) وجهاز المخابرات الخارجية البريطانية (MI6) وقاده الجنرال المغمور فضل الله زاهدي وأطاح بحكومة الزعيم الوطني الإيراني الدكتور محمد مصدق لأقدامه على تأميم نفط بلاده، وبعده جاء الانقلاب الذي نظمته الـ (CIA) نفسها في غواتيمالا في 27 حزيران 1954 وقاده الجنرال المغمور كارلوس أرماس واطاح بحكم الرئيس الاشتراكي المنتخب ديموقراطيا أريفالو أربينز لقيامه بإصدار قانون للإصلاح الزراعي وإجراءات اخرى هددت مصالح شركات الفواكه الامريكية ذات النفوذ القوي لدى البيت الأبيض، وانقلاب 8 شباط 1963 في العراق الذي صممته ونفذته نفس الوكالتين الـ (CIA) الامريكية و الـ (MI6) البريطانية معا وقاده حزب البعث برئاسة الضابط اليميني المغمور أيضا احمد حسن البكر واطاح بحكومة الزعيم الوطني العراقي عبد الكريم قاسم لأقدامه على اصدار القانون رقم 80 الذي حد من نهب الشركات النفطية الغربية للنفط العراقي. وبعد سنتين أسفر الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال سوهارتو عام 1965 في اندونيسيا بدعم الاستخبارات الأمريكية والأسترالية عن عزل الزعيم الوطني أحمد سوكارنو وتنظيم مذابح بلغ عدد ضحاياها زهاء نصف مليون، وقيل مليوني، قتيل من المواطنين الوطنيين خلال عامي 1965 و1966. وفي تشيلي كذلك اسفر الانقلاب الذي قاده الجنرال اوغستو بينوشيه في 11 ايلول 1973 بدعم من الـ (CIA) عن مقتل رئيس البلاد المنتخب ديمقراطيا سلفادور أليندي وارتكاب مذابح دموية ذهب ضحيتها آلاف المدنيين والعسكريين المتعاطفين مع حكومته.
جميع التعليقات 1
RaadMajed
منذ 2 شهور
مقال مهم جدير بالقراءة