طالب عبد العزيز
سواء أعتذرَ الممثل الأردني عن دوره في فيلم (حياة الماعز) أو لم يعتذر، ومثل ذلك نقوله الى الممثل العماني الذي أعتبر دوره طبيعياً فيه، فأنَّ الفيلم يفتح أكثر من سؤال وإجابة، عن الواقع الذي تعيشه العمالة الآسيوية، في الخليج العربي، مثلما تنفتح الأسئلة والاجابات على تركيبة المجتمع العربي، ذي الأصول البدوية، وليست القضية معيارية هناك، بالقدر الذي تكشفت فيه طبيعة وفطرة الانسان، قبل وبعد النفط، وحقيقة قدرة الأديان والقوانين والثراء والتحولات الكبرى على تغيير السلوك العام للمجتمع.
لا يختلف اثنان على أنَّ البداوة شيء والتحضر شيء آخر، وأنَّ الحياة في الصحراء قاسية غليظة، على العكس من الحياة في السهول وقرب الأنهار، ولعلنا نجد مبالغة في بعض مشاهد القسوة التي تعامل بها (الكفيل) مع الراعي الهندي، إلا أننا لا ننفي ما يقوم به الكثير من هؤلاء الكفلاء من قسوة وقهر، ذلك لأنَّ ذاكرتنا حافلة بوقائع مشابهة، فضلاً عن ما قرأناه في أثرنا العربي، وهو كثير عن غلظة وقسوة طباع البدوي، وهو متأت قطعاً من قسوة وغلظة محيطه، في الصحراء، حيث الشمس المحرقة والعواصف والرمال والوحوش التي تداهم قطيع أغنامه فضلاً عن التأصيل الملازم لفكرة النهب والغزو والقتل في روحه، التي لم تتصالح بعد مع المحيط ذاك، على الرغم من المتغيرات التي قلبت ميزان معادلة السيد والعبد.
هل انقلبت؟ سيكون الجزمُ ضرباً من الكذب، أوَ لم تنقلب؟ سيكون الجزمُ ضرباً من النفاق والكذب أيضاً، فالطبع يغلبُ التطبع، والعِرق دسّاس، كما يقال. أتذكر أنني ركبت مرةً، بسيارة اِحدى قريباتي، في دولة الكويت، أرادت فيها أنْ تطلعني على المدينة، وكانت تسير بالسرعة التقليدية، لكن، حدث أنّها ضغطت على دوّاسة البنزين، فانطلقت سيارتها مسرعة، على غير عادتها، وحين سألتها عن السبب؟ قالت: هذا صاحب السيارة التي أمامي يريد أنْ يسبقني! قلت: ليسبقك إذن، وما الضير، لعله ذاهب لأمر يقتضي منه ذلك، نحن نستمتع بمسيرنا الهادئ هذا. فقالت: لا، شلون؟ هذا (مو كويتي) ويريد يطلعني! كان أمرُها غريباً عليّ! إذنْ لو كان كويتياً لما فعلت ذلك! ترى، هل كانت هذه حالة استثنائية، وعملاً فردياً خاصاً بها؟ أم أنها طبيعة وأخلاق مجتمع لم يتطهر بعد من عنجهيته؟
كان معاوية جالساً على سرير الخلافة بدمشق حين حدّثَ قائلاً:" قَدِمَ علقمةَ بن وائل الحضرمي على رسول الله، فأمرني الرسول أنْ أنطلق به الى منزل رجل من الأنصار، أُنْزلُه عليه، وكان منزله أقصى المدينة. فانطلقتُ معه، هو على ناقته، وأنا أمشي في ساعةٍ حارّةٍ من النهار، وليس عليِّ حذاء، فقلت: أحملني ياعمّ من هذا الحر، فقال: أنتَ لستَ من أرداف الملوك. قلتُ: إنّي ابن ابي سفيان! فقال: سمعتُ الرسولَ يذكر ذلك، قلت: فالقِ عليَّ نعلكَ! قال: لا تقبلها قدماك، ولكنْ، اِمشِ في ظلِّ ناقتي، فكفاكَ بذلكَ شرفاً، وأنَّ الظلَّ لكَ لكثير. يقول معاوية: فما مرَّ بي مثل ذلك اليوم، قط.
أكثر من 1400 سنة تفصل بين حكاية المرأة قريبتي وحكاية معاوية، لكنَّ المخرج أشعرنا بتوقف الزمن بين الحكايتين في فيلمه(حياة الماعز) مع أننا نحاول ألّا نكرّس الصورة أكثر، على الرغم من وجود العشرات والمئات من الصور والوشائج المماثلة، وقد لا نحتاج الى السفر في الزمن بعيداً، ونكتفي بتذكر ما فعله الذبّاحون في جيش داعش بخصومهم من العراقيين والعرب والأجانب، وهيئاتهم الوحشية التي كانوا يظهرون بها، والتي لا تختلف عن هيئة وسلوك الكفيل في الفيلم، ولعلنا نستحضر أيضاً سوق النخاسة وبيع النساء(الجواري) في سنجار والموصل والمدن التي وقعت بيد رجال الدولة الإسلامية، ولسنا بحاجة الى استحضار ما فعله العرب المسلمون بأبناء عمومتهم في الدولتين الاموية والعباسية وحت العثمانية، ومن يتصفح كتاب (مقاتل الطالبيين) وكتب المغازي يقع على ما يقشعر له البدن الآدمي. ليس غريباً ما نقرأه من أخبار قبائل جزيرة العرب في اليمن والحجاز ونجد والعراق والشآم، وحروبهم على الماء وسرقة الابل والاغنام والماعز وغزوات بعضهم للبعض وما افتخار أبنائهم وأحفادهم في مجالسهم اليوم بالمآثر التي خلّفتها حروبُ قبائلهم ولا نقول التي وقعت بين آل سعود وآل الرشيد وشمّر ومعارك عنزة وآل صُّباح وآل خليفة وآل ثاني وسواهم في القرون الماضية إلا ما يقلّص من فجوة الزمن ويجعل من قصة الفيلم أكثر واقعية.