لطفية الدليمي
قد تكون النهايات أجمل من البدايات، هذا عندما ننتظر نتيجة طيبة تكلّلُ جهداً تعبنا في سقايته وتنميته؛ لكن ثمّة نهايةٌ بين النهايات تكون في العادة مجلبة لألم ممضّ يستعصي على الإحتمال.
عندما تمضي السنون مسرعة الخطى بنا كأننا سحابٌ تدفعه العاصفة، وتتآكلنا المشقات وبخاصة تلك التي لم تكن ضرورية أو مسوّغة كما حصل معنا في العراق، فغالباً ما يدفعنا الإستغراق في سنواتنا الماضيات إلى معاناة ألم الخسارة وضياع العمر كأنّه حفنة رمال تسرّبت من بين أصابعنا. ربما يتطوّرُ الأمر إلى مرثية متّصلة تصبح مع المهادنة والاستمراء خصيصة مميزة لمن يجد فيها بعضاً من عزاء يبعث الراحة والسلوى في القلب المكلوم.
من قضى حياته في العراق سيلوم نفسه أنّه لم يسافرْ منذ زمان بعيد مثلما فعل فلان وفلان، ومن عمل في مهنة سيلوم نفسه أنّه اختار مهنة متاعب لم تجلب له سوى تعب القلب وتقاعدٍ بسيط على خلاف من يعرف ممّن صاروا أطباء أو صيادلة (لن أقول مهندسين. المهندسون صاروا اليوم في عداد الفقراء في العراق). لعلّ أكثر من يشتكي سوء سنواته المتقدّمة هم الكّتّاب الذين صدّقوا أكذوبة أنّ حرفة الأدب هي باب إلى الفقر المستديم.
الموضوع شائك ويستلزم تفكيكاً دقيقاً في أكثر من مفصل. ابتداءً أقول من جانبي أنني سعيدةٌ لكوني أمضيتُ سنوات حياتي في حقل الكتابة. بدأتُ مُدرّسة لبضع سنوات، ثمّ استقامت حياتي بعملي كاتبة. هذا ما شئتُ أن أكونه بخيار شخصي وبمسؤولية كاملة. لكنّ التناول بالطبع ليس مقصوراً على حالات شخصية. الأفضل تفكيكُ التعامل لنظرتنا إلى الحياة وخياراتنا فيها ومنها خيارُنا المهني.
هناك أولاً المقاربة الوجودية للمسألة. نحنُ نولدُ لنعيش سنوات معدودات نغادر بعدها الحياة. كم سنعيش؟ مائة سنة في أفضل التوقعات. هل تستحقّ حياتنا القصيرة أن نسفحها في مهنة لا نشعر إزاءها بأي قدر من الشغف؟ هل يستحقُّ المال أن نجعله ميدان مقايضة فاوستية نبيعُ فيه شغفنا ونخسرُ فيه جذوة التوهج الروحي والعقلي؟ نتصوّرُ في العراق والمنطقة العربية أنّ الأطباء وممتهني التخصصات الطبية هم أكثر الناس قدرة في إستحصال المال، وهذا صحيح إلى حد بعيد؛ ولكن لماذا تجعل نفسك موضع مقارنة بآخرين؟ المقارنة هي الباب المفضي إلى التعاسة. كل شخصٍ هو كينونة قائمة بذاتها. لماذا تظنُّ أنّ فلاناً يعيشُ حياة أفضل منك لمجرّد أنّه يتحصلُ على عائد مالي أكثر؟ لا تنسَ أنّ بعضاً من الأطباء والصيادلة يلجأون إلى ممارسات معيبة لا أريد التفصيل فيها. هل تريدُ أن تكون أحد هؤلاء؟
الفقرة السابقة تختصُّ بأناسٍ لهم القدرة على أن يكونوا أطباء أو صيادلة وفضَلوا الإنقياد لشغفهم. عندما يمارسُ الإنسانُ شغفه يكون سعيداً، طلق المحيّا، يشعرُ بخفة الجسد ومرونة الحركة بعيداً عن الرزوح تحت أعباء ما لا يرغبه. المشقات مع الشغف تستحيلُ هضاباً قليلة الإرتفاع؛ أما في غياب الشغف فحتى الهضبة التي لا ترتفعُ سوى أشبار عن الارض ستبدو مثل جبال هملايا.
هناك بالتأكيد من إضطرّته الظروف لممارسة عمل لا يلقى هوى في نفسه. لا بأس. نحن اليوم في عصر البيانات الكبيرة والمعلومات المتدفقة. تعلّمْ ذاتياً كلّ ما تريد، وفي مستطاعك تحقيق نتائج إستثنائية. لعلّنا سنجدُ مشقة في تصديق أنّ الطلب على خريجي الفلسفة بات كبيراً في العالم الغربي لأنّ المهارات التحليلية للفلاسفة تبدو متناغمة مع متطلبات العمل في بيئة العمل السائدة.
من يمتلك الشغف والإنضباط والمثابرة في العمل هو وحده من سينكبُّ على العمل من غير أن يقارن أحواله المعيشية مع آخرين. لذّة العمل والعيش هي التي ستكون (ماركة مسجلة) لحياته، ولن يجلس في سنواته المتقدّمة حسيراً كسير القلب يرثي سنواته الضائعات.
هذا خيارُنا، ولو شئنا غير هذا لما كنّا نحن. سنغادرُ الحياة يوماً؛ لكن كم أحزنُ لهذا الذي يغادرُ الحياة وثمّة شغفٌ في قلبه لم يشبعْهُ وظلّ ماكثاً مستكيناً كجثة هامدة جعلت حياته على الأرض عبئاً يصعبُ احتماله. كلُّ من يخسرُ شغفه في مقايضة بائسة هو كمن يلعبُ لعبة روليت روسي لا نهاية لها.
لاشيء في الحياة يستحقّ أن تخسر شغفك من أجله. لا شيء أبداً.