TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > إشكالية القضاء في العقل الديني الشيعي

إشكالية القضاء في العقل الديني الشيعي

كيف يتحرر عقل الفقيه طواعية مما جمعه تاريخيا من سلطات في يده؟

نشر في: 23 سبتمبر, 2024: 12:03 ص

علي المدن

(1-2)
أزمة الفقه الإمامي مع القضاء ليست جديدة، بل هي قديمة جدا وتعود إلى زمن حياة أئمة هذا المذهب، الذين كانوا يوصون أتباعهم بعدم التقاضي إلى قضاة الدولة الأموية والعباسية، ويشددون النكير على من يفعل ذلك من اتباعهم. وقد تضمنت المدونات الروائية الإمامية (انظر مثلا: الكليني، الكافي، كتاب القضاء والأحكام، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور) أوصافا في غاية السوء بحق هؤلاء القضاة والمتقاضين عندهم. في المقابل حملت تلك المدوّنات تعاليم صريحة بضرورة التقاضي إلى أشخاص من داخل الجماعة الدينية التي توالي الائمة، أشخاص "نظروا في حلال وحرام الأئمة وعرفوا أحكامهم"، فأمرت الموالين لهم بـ "اختيار" واحد من أعضاء الجماعة ممن يحمل تلك المواصفات والامتثال لما يحكم به، بل واعتبرت موقف الأشخاص الذين لا ينصاعون لحكم القاضي المنتخب رفضا لتعاليم الإمام وردا عليه؛ وبالتالي رفضا وردا على الله ورسوله. والرواية الآتية تلخص جميع ما تقدم: (عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ أَوْ إِلَى الْقُضَاةِ أَيَحِلُّ ذَلِكَ؟ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا فَارْضَوْاُكْمِ الطَّاغُوتِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ. قُلْتُ: كَيْفَ يَصْنَعَانِ؟ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا فَارْضَوْا بِهِ حَكَماً، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا بِحُكْمِ اللَّهِ قَدِ اسْتَخَفَّ وَعَلَيْنَا رَدَّ وَالرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ).
استمر العمل بهذه التوصيات من قبل الجماعة الشيعية في فترة حياة الأئمة، حتى "اعتادت" تلك الجماعة على العمل بها، فكانت حياتها مستقلة تماما عن الدولة وأنظمتها القضائية، تعيش في عزلة عن الأوساط الاجتماعية التي تتواجد فيها. ومنذ بداية ما يسمى بالغيبة الكبرى في سنة (٣٢٩) هجرية طوّر الفقه الإمامي من دينامية عمله الداخلية، واطلق نقاشا حول نقطة جوهرية، يلخصها السؤال التالي: من هم أولئك الأشخاص الذين اعتبرتهم تعاليم الأئمة (عارفين) بفتاوى الأئمة و(ناظرين) فيها؟ وما هي طبيعة تلك (المعرفة) وهذا (النظر)؟
أحدث هذا السؤال انقساما بين الشيعة الإمامية، فذهب فريق منهم إلى القول إن (العارفين) بأحكام الأئمة، (الناظرين) في حلالهم وحرامهم، هم (الفقهاء)، أي الذين يفقهون (بمعنى يفهمون) كلمات الأئمة ومقاصدهم، وليس مجرد (الناقلين) لتلك الكلمات من "رواة الحديث"، فإن هؤلاء وإن كانت لهم فضيلة نقل الأحاديث ولكنهم ليسوا بالضرورة يفهمونها (أي يفقهونها)، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، والعلم دراية وليس رواية. وهذه الدراية هي لون من (الاعتبار)، أي التبصّر في الأشياء وتدبرها وأخذ العبرة منها. من هنا أطلق هذا الفريق على نفسه اسم (أهل الفقه والاعتبار) (تجد هذا المصطلح مستخدما بكثرة في كتاب "أوائل المقالات" للشيخ المفيد). كان العمل الأهم الذي قام به هذا الفريق هو استخدام الفاظ قرانية خاصة (فقه، اعتبار) واعطائها مداليل محددة تدعم عمل فئة محددة، فالقران حثّ على "التفقه" فقال: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا الدين)، وأوصى بالاعتبار فقال: (فاعتبروا يا اولي الأبصار)، وكل ما كان على هذا الفريق فعله هو تطبيق هذه المصطلحات في السياق الجديد من أجل دعم موقفهم كجماعة معينة لها وظيفة خاصة. ومنذ الآن فصاعدا سيعني لفظ "الفقيه" ليس فقط ما يشير إليه معناه اللغوي (أي الشخص صاحب الفهم، البصير، في دراسة موضوعه) بل ما يمثله الفرد المنضوي تحت تلك الجماعة خاصة التي تقوم بوظيفة محددة، هي فهم النصوص الدينية.
إن عملية الفقه / الفهم المؤسسة على (الاعتبار)، وكان ابن ادريس في كتابه السرائر هو اخر من استخدم لفظ "الاعتبار" في وصف هذه العملية، ستشهد تحولا جديدا باستخدام لفظ جديد وهو مفردة "الاجتهاد"، وسيسبغ المحقق الحلي في كتابه "معارج الأصول" معنى جديدا عليه هو عبارة عن (الجهد المبذول من اجل استنباط الحكم الشرعي). لقد كانت الحساسية الدينية الناشئة من الأحاديث الكثيرة المروية عن أئمة المذهب الناهية عن الاجتهاد والذامة لأهل الرأي والقياس عائقا كبيرا دون استخدام لفظ (الاجتهاد)، ولذا اتجه هذا الفريق إلى لفظي (الفقه والاعتبار) التي استخدمها النص القراني، ولكن بعد هذا التحول الجديد دخل للحقل اللغوي التداولي في المجال الفقهي لفظ ثالث (الاجتهاد)، وبه اكتملت عملية رفع الحواجز أمام المهمة التاريخية التي ستولها هذا الفريق على مدار قرون لاحقة (من الاعتبار والمعتبر، إلى الفقه والفقيه، إلى الاجتهاد والمجتهد).
في مقابل هذا الفريق كان هناك فريق آخر، هو الأقدم والأكثر التصاقا تاريخيا بالعادات الفكرية في الاوساط الاجتماعية الشيعية التي كانت تصب كل اهتمامها على نقل أحاديث الأئمة والالتزام الحرفي بمضامينها، ويمثل هذا الاتجاه (أهل الحديث والآثار) (وجود هذا الفريق واختصاصه بهذا الاسم وردت الاشارة له أيضا في كتاب أوائل المقالات)، فقد أصر هؤلاء على أن (العارفين) بأحكام الأئمة و(الناظرين) في حلالهم وحرامهم هم أولئك الذين ينقلون آثار الأئمة وفتاواهم دون تحريف ولا تبديل، وبلا إضافة ولا اجتهاد ظني. يقول هذا الفريق إن هذه الاجتهادات الظنية هي تحديدا ما نهى الأئمة عن فعله، وشددوا النكير على من يعمل بنتائجه، ولن يغير حقيقة هذا النهي استخدام الفاظ جديدة من القران (كلفظي الفقه والاعتبار)، ولا اعادة تفسير لفظ (الاجتهاد) بمعنى بذل الجهد، فكل هذه المحاولات لن تمنح الشرعية لما يفعله الفريق الآخر الذي اسمى نفسه بالفقهاء وأهل الاعتبار، ولن تحجب حقيقة عملهم بالظن وتمسكهم بـ(التعليلات العليلة) - كما كان يقول البحراني في كتابه الحدائق الناضرة - التوظيفات اللغوية بمعان جديدة مرفوضة.
إن الانقسام المتقدم كان يتمحور في العلن حول شكل التعامل المعرفي مع الأخبار المنقولة عن الأئمة، ولكن هذا فقط في الظاهر. أما حقيقته في الباطن، فهو يتمحور حول (السلطة المعرفية) التي يكتسبها كل فريق من الفريقين المتنازعين و(دوره الوظيفي) في الأوساط الاجتماعية الشيعية الإمامية. ومع انتصار الفريق الأول (أي فريق الفقهاء والاجتهاد) مسك الفقيه بهذه السلطة المعرفية بوصفه صاحب الحق الحصري في تفسير تلك المعارف المنقولة عن الأئمة. ولذا حين نتصفح أي كتاب في مباحث (الاجتهاد التقليد) لدى المتأخرين على هذا التحول الكبير نجدا أن الفقيه، أو المجتهد كما صار يسمى، يدرس أولا وقبل كل شيء هذا الحق الحصري، حق الافتاء، ويحشد الأدلة من كل صنف (القرانية، والروائية، والعقلية) من أجل إثبات أنه وحده، دون من سواه، من يحق له ممارسة هذا الحق المعرفي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram