ستار كاووش
الى أستاذي المعماري معاذ الآلوسي
كانت الكثير من المدن القديمة مُحاطة بأسوارٍ عالية تحميها من المخاطر، وفي نقاط معينة من هذه الحصون كانت تنتصب بوابات ضخمة ومحكمة الإغلاق، تنفتح عند الحاجة ويقوم حراس أشداء بالتناوب على حراستها. ومازالت بعض هذه البوابات أو أجزاء منها شاخصة في أماكن متفرقة من العالم، كالبوابة التي أقف أمامها الآن والتي نجحت في إمتحان الزمن وتجاوزت عوامل المناخ والتأثيرات الأخرى، وظلَّتْ واقفة لأكثرَ من أربعمائة سنة، إنها بوابة غنت في مدينة ليل الفرنسية. يا له من بناء مثير للإنتباه حقاً، كل طابوقة فيه تقول الكثير عن ماضٍ مليء بالحياة والحركة والتحولات المختلفة. ورغم إن هذا الجمال الذي أمامي هنا يبدو آفلاً بالنسبة للكثيرين، لكنه مع ذلك يحكي عن تاريخ مدينة تناوبَتْ عليها العديد من الحقب، وضمتها أكثر من دولة تحت رايتها بسبب الحروب والتغيرات التاريخية والجغرافية، لتكونَ في النهاية جزءً من الأراضي الفرنسية.
إقتربتُ من هذه البوابة العريقة ومرَّرتُ يدي على واجهتها، متحسساً ذاتَ الحجارة التي أمسكها العمال الهولنديون سنة ١٦١٧ ورصفوها فوق بعضها بعناية وهم يغنون أغاني ذلك الزمان، حتى كأني أسمع أصواتهم التي إختلطت بصياح البنائين وهم يستعجلون رفع الأحجار من الأرض، كي يُكمِلوا البناء، ليتركوا لنا بعدها حكاية عظيمة بهيئة بوابة نادرة. هكذا قالوا قصتهم التي تعود الى ذلك الوقت البعيد، وهكذا ظلَّتْ الحكاية صامدة حتى وقوفي أمامها بإنبهارٍ ومهابة. إبتعدتُ قليلاً عن الواجهة، فهالتني الفخامة والقوة والمجد الذي مازال يقظاً منذ أربعة قرون! درتُ حول جانبي المكان وتأملت كل التفاصيل وتحسستُ بصمات الزمن، متخيلاً كيف وصل الجيش الاسباني الى هنا، ليمضي من خلال هذه البوابة شمالاً، حتى مدينة بريدا الهولندية التي سَلَّمتْ مفاتيحها بسلام للقائد الاسباني، وهذه الحادثة رسمها فيلاسكيز بلوحة عظيمة شاهدتها في متحف البرادو، حيث عاصر الرسام نفسه هذا الحدث، قبلَ أن يرسمه بطريقة مذهلة سنة ١٦٣٥، والتي يظهر فيها جوستين يسلم مفاتيح المدينة الى سبينولا.
كانت هذه البوابة تحتوي في الأصل على مدخل واحد، وهو الموجود في وسطها، وقد تَمَّ إضافة المدخلين الآخرين سنة ١٨٧٥ لأجل تسهيل الحركة والمواصلات في المدينة والسماح للترام بالذهاب والعودة بسهولة. وبعد أن توقف العمل بالترام سنة ١٩٦٣، بقيت البوابة منتصبة كالعادة وكإنها تُعاند كل المتغيرات والظروف.
تنقسم البوابة الى ثلاثة أقسام، حيث يحتوي القسم الأول على المداخل الثلاثة، وهو مبني بالحجر الأبيض. والجزء الثاني مبني بالطابوق الأحمر ويتوسطه كادر أبيض بحافة مثلثة من الأعلى، يبرز في مركزه شعار نبالة مدينة ليل باللون الأحمر، محاطاً بغصنين كبيرين، وتبرز على جانِبَي شعار النبالة، ذراعين ضخمين مازالت السلاسل معلقة بهما، حيث كانا يشكلان الذراعين الذين يقومان بفتح البوابة وإغلاقها. وعلى جانبي هذا الجزء من البوابة زخرفة بارزة باللون الأبيض تبرز فيها بعض الأكاليل. أما الجزء العلوي للبوابة فيبرز في منتصفه بناء أبيضاً تتوسطه كوة صُنعت خصيصاً لينتصب فيها أحد التماثيل، الذي لا وجود له الآن، وحسب المصادر التاريخية فأن ذلك التمثال قد تحطم خلال أحد الحصارات التي كانت تطوق المدينة.
إبتعدتُ مائة متر تقريباً، ثم توقفتُ ملتفتاً من بعيد نحو البوابة التي فتحت لي ابوابها دون حصار أو سلطة، سوى سلطة الجمال والإفتتان به. ومضيتُ أفكر بالمدن التي تشبه جدرانها صفحات الكتب، والتي علينا قراءتها والتمعن بها والإنسجام معها حتى لو كانت مختلفة عنا أو غطاها غبار الزمن. نعم علينا أن نوقظَ هذا الجمال النائم والإلتفات اليه. وشخصياً تعلمتُ بمرور الوقت، أن أصغي لهذه الأشياء غير المتوقعة، أنصتُ لإيقاعها واستمع لأحاديثها، كما إستمعتُ لحديث هذه البوابة التي أرادوها حصناً يحجب المدينة عن الخارج، لكنهم لم يتوقعوا بأنها ستتحول مع مرور الزمن الى حصنٍ لثقافة المدينة وباباً لتاريخها العظيم.