رشا الربيعي
العنف لا يولد غير العنف ..تتردد هذه الجملة كثيراً على مسامعنا بين فترة وأخرى؟ ومن منّا لم يقرأها في مواقع التواصل الاجتماعي المليئة بالأخبار العاجلة؟
ولكننا نادراً ما استوقفتنا كلماتها لنبحث عنها، ننقب في جذورها لعلّنا نساعد في تخفيف حدة العنف المتراكم والمتزايد خصوصاً في مجتمعاتنا دول العالم الثالث، التي نشأت وتربّت على منطق القوة، حتى يكاد لا يخلو عقداً دون أحداث مدوية.
ولكننا وللأسف قد تعودنا على منطق الهروب، نهرب من مواجهة الآخر (المذنب) ونهرب من مواجهة أنفسنا ولعلنا بواسطة الأخيرة قد نصل إلى جذور المشكلة كي نتمكن من معرفة نوع الداء الذي أصبنا به منذ لحظة ولادتنا لنشرع بعدها في رحلة البحث عن الدواء، وهذه المرحلة تحديداً تحتاج لكثير من الجهد والوعي والتصالح مع الذات.
نشرت العديد من مواقع التواصل الاجتماعي عن قانون الأحوال المدنية الجديد والذي يتضمن الكثير من المغالطات والانتهاكات لحقوق المرأة والطفل والتي هي في الأصل منتهكة إلى أقصى حد، هذا والقانون معنا فكيف إذا تمت الموافقة على اجراء التعديلات المفترضة والمقدمة من قبل بعض أعضاء مجلس النواب العراقي المحترمون؟! تصفحت التعليقات الواردة في بعض المنشورات التي أشرت إليها وأصابني الإحباط من كم التحامل المبغض والكراهية المعلنة كما والشماتة من قبل الكثير من الرجال تجاه المرأة، حتى ذهب البعض منهم بعيداً ليحملها (المرأة) مأساة البلد السياسية عبر بعض الشخصيات النسائية في الحكومات السابقة والحالية، وأنا أقرأ ما كتب عنّا نحن النساء تذكرت كتاب “التخلف الاجتماعي / مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” لمؤلفه عالم النفس اللبناني الشهير الدكتور مصطفى حجازي والذي تناول فيه عبر فصول عدة المشاكل النفسية الوجودية التي يعاني منها إنسان العالم الثالث بصورة عامة رجلاً كان أو امرأة.
ينشأ الطفل في مجتمعاتنا وهو محمل بعقد النقص والعار لأبويه واجداده دون أن يلتفت لها لأنها تنشأ معه منذ الولادة وتنمو حتى تكاد أن تصبح عصية على الحل، إلا إذا أعترف بوجودها الإنسان المقهور أو المهدور حسب تعبير الدكتور مصطفى حجازي والذي أطلقه على إنسان العالم الثالث، فالمعرفة بوجود الداء تساعد كثيراً في مرحلة التعافي وصولاُ لمرحلة الشفاء التام.
الإنسان في مجتمعاتنا مسلوب الإرادة من قبل الطبقة الحاكمة وتعدُّ الأخيرة كذلك مسلوبة الكلمة والفعل من قبل الدول العظمى وإن أدّعت خلاف ذلك وأن لها سيادتها ووحدة قرارها فالواقع يظهر خلاف ما تدّعيه فلا سيادة ولا وحدة قرار تُبرهن على أرض الواقع، ووسط هذه الفوضى وحقوق الوطن والمواطن المسلوبة يذهب السياسي لإلهاء شعبه عمّا ينقصه ويعيبه عبر إيجاد مَخرج واهن يصب عليه الرجل المقهور جام غضبه وشعوره اللاإرادي بالغبن فيثأر لنفسه من هذا المَخرج حتى وأن كان هو شريكه في الحياة (المرأة) وبراعم المستقبل (الأطفال) ليحمّلهم وزر أثم لم يرتكبونه، فيسعى جاهداً أن يمتلك كل شيء ويسيطر على أي شيء تطاله يديه، ولأننا نعيش في دوامة من الفوضى البعيدة كل البعد عن مؤسسات الحياة المدنية التي تحتكم إلى القضاء لا إلى المنبر أو المضيف اللذين يثقفان لحياة أحادية يسيطر فيها الرجل سيطرة مطلقة وتغدو المرأة مجرد تابع له، لا رأي لها ولا كلمة، مجرد أداة لتلبية الرغبات الجنسية للرجل واداة لتأدية المهام المنزلية والوظيفية، وبعد هذا التضييق والخناق الذي يفترضه الحاكم على الرجل والرجل على المرأة والمرأة تفرضه على الطفل تُعاد ذات الكرّة في كل دورة حياة دون أن نسأل أو نتساءل عن حلٍ… وتستمر الفوضى وتتراكم حتى تغدو أشبه بالأمراض الوراثية التي تُصيب المرء وجميع أبناء عمومته و جلدته ولا ينتبه لها إلا حين يغادر بيئته ويتعلم علوماً جديدة وينشغل بتعليم نفسه وتطويرها عوضاً عن انشغاله بالآخر (المرأة)، ولكن الرجل في مجتمعاتنا الذكورية منزّه عن الخطأ وأن اخطأ فعادة ما ينسب خطئه لأمه لأنها لم تحسن تربيته، فأنى له أن يعي وينتبه كثيراً لنفسه ؟ وكيف له النظر خارج الصندوق، وذلك الصندوق يهبه قوة وزعامة هلامية!
ولكن هل تستمر الحياة أحادية القطب؟ بالتأكيد كلا، فقد أخبرنا التاريخ بكل شيء وكيف ثارت النساء منذ نهايات القرن التاسع عشر وصولاً للقرن العشرين من أجل حقوقهن، وليس بعيداً عن أوربا وإيطاليا تحديداً كانت النساء حتى خمسينيات القرن الماضي في بعض مدن إيطاليا نابولي مثلا يعانين حتى يستطعن تكملت دراستهن الجامعية وبمرور الوقت واستمرار النساء بالتظاهر والعمل الجاد سُنت قوانين جديدة تحفظ حق المرأة والطفل بالعيش الكريم.
ونعود مجدداً إلى العبارة المألوفة لدينا: العنف لا يولد غير العنف.
فماذا ننتظر من طفل تربى على يد أم هي الأخرى طفلة؟ أمٌّ قاصرة، حقوقها مسلوبة، لا تعرف من الحياة شيئاً سوى الطاعة والخدمة، تتعامل بعاطفتها الوجودية المندفعة، لا شغل لها سوى إرضاء الآخر المتسلط والتماهي مع رغباته.. هل نتوقع أن تخرج لنا هذه الأم (القاصر) جيلاً جديداً ناقداً لأخطائه واخطاء الآخرين، جيلٌ يحترم نفسه ويحترم شريكه في الحياة، يصفق للحاكم عندما يحسن التصرف ويحاسبه وفق القانون إن اساء، جيلٌ مرجعيته الأولى هي العلم والمعرفة، لا يؤمن بالخرافة ولا سلطة عليا عليه سوى سلطة القانون؟
جيلٌ سليم منذ لحظته الأولى لا مُحمّل بأمراض نفسية متوارثة، يعي جيداً بأن الحياة ليست غابة وأن العنف لا يولد غير العنف، والحقوق إن طال اغتصابها ستولد ثورة تلو الأخرى حتى تكتسب الحقوق أو تؤخذ عنوة وهذا كذلك لا يعد سوى عنفاً ولكنه عنفاً اضطرارياً لأخذ الحقوق واسترجاعها، حق العيش الكريم، حق التعلم، حق الموافقة والرفض، حق الحضانة للطفل وحق الوصاية بالمناصفة مع الرجل.