د. حيدر الجوراني
بالرغم من أنه وَلاّدٌ للحظارات إلا أنه المُستورد الأكبر للأفكار و الآيديولوجيات السياسية.
هكذا يروي لنا تأريخ العراق السياسي، و لَعلي أُكرر دائماً، إن إستدخال المفاهيم دون إعادة إنتاجها ضمن النسق الإجتماعي سيؤدي إلى فوضى. و حالة اللاإستقرار بين التيارات القومية و الشيوعية و حتى بعد دخول الديمقراطية و مفاهيمها دليل واضح.
و ما يُميز بدايات العقد الثالث من النظام السياسي الحالي في العراق، هو مفهوم الليبرالية الذي أخذ مؤخراً حيزاً تسويقياً في الفضاء العام سيما و أن تيارات و حركات سياسية جديدة تستظل به كشعاراً نحو التغيير الديمقراطي، و ذهب البعض إلى هاجس الشك في أن الأحزاب السياسية التقليدية راحت تستتر خلفه.
و لكي لا يتكرر الخطأ الشائع في إستدخال المفهوم دون إعادة إنتاجه لابد للمُتبنين و المُروجين لهذا المفهوم من تبسيط له ضمن أنساق المجتمع العراقي.
و لكي لا تغرق النخبة و الجماهير في هَوس المفاهيم و الذي أحسبهُ شكلاً من أشكال التزييف للوعي السياسي من خلال التسطيح الفكري للمفهوم و المُتلقي. كيف علينا أن نفهم الليبرالية؟ و في أي مجال: الإقتصادي؟ السياسي؟ الإجتماعي؟
يؤخذ بالحُسبان دوماً، بإن الإنطباع السائد هو أن أوروبا المسيحية موطن ولادة الفكر الليبرالي هي منطقة التسامح الديني. بيدَ أنَ هذا الإنطباع المُسوُق إعلامياً و ثقافياً مجافٍ للحقائق التأريخية التي شهدتها أوروبا من خلال سياساتها المتسمة بعدم التسامح مع الجماعات الدينية غير المسيحية و كذلك وضوح التمييز العنصري كأساس لليمين الليبرالي المتطرف.
في كتابهِ نهاية التأريخ، يُناقض فرانسيس فوكوياما نفسهُ بالقول " إن الإنتصار الغربي لفكرة الغرب نفسه كان وليد ضعف الوازع الديني في المجتمعات الأوروبية". و يَسترسل بالقول " رُبما سنشهد نهاية للتأريخ بعد إنتهاء الحرب الباردة من خلال عَولمة الليبرالية الغربية كنهاية حتمية يتوقف عندها الفكر البشري الذي توقف عند فكرة الليبرالية ليحكم من خلالها العالم و النظام الدولي اليوم".
و بينما يَحثُ الفيلسوف الألماني "يوركن هايرماس" العلمانيين على وُجوب الإنفتاح على تأثيرات الدين مُستنداً إلى أن جذور الهوية الأوروبية قائمة على أُسس دينية مسيحية، يستثني فوكوياما النظرية السياسية الإسلامية "دولة العدل الإلهية " على أنها طرحاً بديلاً لليبرالية و من قبلها الشيوعية أيضا، و فاتهُ أن يستشهد بالسلوكيات النيوليبرالية التي منحت التيارات الأصولية و نظريتها السياسية الإسلامية في العراق نظاماً ديموقراطياً و مطالبتهم بالتداول السلمي للسلطة.
من الممكن أن يكون الفرد الليبرالي مُتديناً على صعيده الشخصي شرط أن لا يُمارس تسويق معتقداته من خلال ممارسته الخطاب الليبرالية كنشاط سياسي. و هذا ما قد يخفق فيه بعض الليبراليين الجدد في العراق لأنه سيضعه في موضع الشك كواجه جديدة لأحزاب دينية تقليدية.
يقول مدير مركز المجتمع العلماني الوطني ستيفن إيفانس " إنه لمن البساطة أن ترى فكرة أن الله هو الحافظ بناءاً على ما يدعيه نرجسياً كدونالد ترامب حينما قال إن الرب كان وقف بجانبي أثناء محاولة إغتياله الفاشلة بينما هو إستثمارٌ في الخطاب الديني من أجل مكاسب سياسية" كما قال إيفانس.
ولا أظن أن الفارق بعيد عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير الذي تحول كاثوليكياً مؤسساً مؤسسته التي أطلق عليها الإيمان Faith لنشر الموروث الديني معللاً ذلك بالقول " لا يُمكن أن تفهم العالم الحديث ما لم تفهم أهم الإيمان بالدين".
إذن هو إستثمار ليبرالي واضح من خلال الصراعات الدينية خارج بقعة الغَرب و على الأرجح لم يكن خطأ القوى العظمى الليبرالية في تسليم مقاليد الديمقراطية بيد أصحاب النظرية السياسية الإسلامية في العراق بعد عام ٢٠٠٣.
و هذا ما يُستنبط من خطاب الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي حينما زار البابا بيندكتس السادس بفضحه الليبرالية قائلاً " إن رفض الحوار مع الدين سيكون خطاءاً فكرياً و ثقافياً في آن واحد ".
الخطأ الإدراكي هو أن الليبرالية قد تتماهى مع المعتقدات المسيحية دون غيرها لأنها تمتاز بندرة طقوسيتها و تطبيقاتها الفردانية على عكس المعتقدات الإسلامية مثلاً. لكن على ما يبدو تبحث القوى العظمى عن منطقة هشة تدعي فيها الليبرالية لتواري سوءة تآكلها في المجتمع الغربي نفسه.
يقول دوثات في عموده المنشور في صحيفة النيويورك تايمز بإن العلمانية قد إنتهت و أن الحروب العالمية قد بدأت منذ تصدع التعايش البروتستانتي عام ١٩٦٠ و بدأت مرحلة تأسيس الليبرالية على أسسٍ دينية و لكنها لم تنجح، مشيراً إلى أن الدفاع عن أوكرانيا كقيمة ولائية لليبرالية لم يكن كافياً بالقدر المطلوب لأن الصراع مسيحياً – مسيحياً مهما كلف الأمر.
لا يحتاج العراقيون الليبراليون الجُدد إلى إستيراد الليبرالية بذات الخطاب المُستهلك لخلق حوار بين الطوائف في المجتمع العراقي كي لا يتشظى التعايش أصلاً.
فالعراقيون كضحايا صراعات الطبقة السياسية تجاوزوا المحنة و بالتالي فإن أي محاولة تزييف ليبرالي- إسلامي تحاول الطبقة السياسية التقليدية أن تُعيد نفسها لتُخرج لنا إسلاميون من عنق زجاجة نبيذ ليبرالي أحمر قد لا تنجح.
فالمفهوم ناشيء في ثقافات توصف بالفردانية و إعادة إنتاجه في ثقافة جمعية كما هو الحال في العراق أمرُ مختلف تماماً و هو بحاجة إلى إعادة تدويره ضمن أنساق المجتمع العراقي و بمجالاته التطبيقية المختلفة.