TOP

جريدة المدى > عام > وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا

نشر في: 25 سبتمبر, 2024: 12:03 ص

لطفية الدليمي
السرنديبية Serendipity، مفهوم يعني في بعض دلالاته أن يأتيك الامر مباغتا عن غير تدبّر قصدي مسبّق. لديّ من تجربتي الشخصية مع القراءة بعضُ الحالات التي ترقى إلى مصاف الكشف السرنديبي المدهش. كلّ قارئ متمرّس تمثلُ القراءة له أحد عُدَدِه الأساسية في التعامل مع العالم لا بدّ له من ستراتيجية في القراءة، وتتعاظم أهمية هذه الستراتيجية مع هذا الدفق غير المسبوق من الكتب الذي تقذفها المطابع كل يوم، أو مع الكتب الالكترونية التي صارت سلعة معترفاً بها وراسخة في كلّ العالم.

لن يدخل القارئ إلى مواقع الكتب المهمة (دور النشر الجامعية الرصينة، دور النشر العالمية المعروفة،،،) من غير ترتيب مسبّق لكي لا يضيع في المتاهة الالكترونية؛ فهو في الغالب يها باحثاً عن عنوان بذاته، أو عن عناوين في حمعرفي محدّد، أو عن إسم معروف له؛ لكنْ يحصل أحياناً أن تميل به البوصلة نحو عناوين ما كان في لحظة شروعه الاولى بالبحث يبتغي البحث فيها. قد يجذبه عنوانٌ ما، وقد يساهم العنوان الثانوي في تعظيم مكامن الاثارة في عقل القارئ. هنا تحصل السرنديبية المنتجة والمثيرة مع القارئ، وتكتمل الاثارة لو تأكّد القارئ من رصانة الكتاب وأهميته وكونه منشوراً عن دار نشر رصينة، ولقي مراجعات مهمّة في كبريات الصحف ومواقع مراجعات الكتب العالمية.
هذا ما حصل معي عندما قادتني رحلة (أمازونية) ألكترونية إلى كتاب بعنوان مثير: نظريةٌ لكلّ واحد فينا A Theory of Everyone للمؤلف مايكل موذوكريشنا Michael Muthukrishna. الكتاب منشور عام 2023 عن معهد ماساتشوستس التقني MIT الامريكي ذائع الصيت الذي تُطبخُ فيه التقنيات والافكار الثورية الحديثة. يعمل مؤلف الكتاب أستاذاً مشاركاً لكلّ من السايكولوجيا الاقتصادية والعلوم السلوكية وعلم الاقتصاد التنموي وعلم البيانات في مدرسة لندن للإقتصاد والعلوم السياسية LSE. يُعرَفُ عن عمل البروفسور موذوكريشنا في حقل التطوّر الثقافي أنّه يسعى للإجابة عن ثلاثة أسئلة كبرى أساسية: ما السبب في أنّ الكائنات البشرية تتمايز تمايزاً نوعياً عظيماً عن سائر الحيوانات؟، وما هي العمليات النفسية والتطوّرية التي تنطوي عليها الثقافة وكلّ آليات التغيّر الاجتماعي؟، وكيف يمكن للإجابات الممكنة للسؤاليْن السابقيْن أن تُوظّف في فهم ومواجهة بعض أعظم التحدّيات الكبرى التي تواجهنا كنوعٍ بشري؟. هذه الاسئلة الثلاثة هي في جوهر مسعى موذوكريشنا في كتابه، وما فصول الكتاب سوى تفريعات وشروحات واستيضاحات لهذه الاسئلة الجوهرية الثلاثة.
يبدأ المؤلف في الفصل التمهيدي من الكتاب بإقتباس ذي قيمة دلالية بيّنة مستلّ من محاضرة ألقاها الكاتب الراحل ديفيد فوستر والاس عام 2005:
"كان ثمّة سمكتان غضّتان تسبحان، وتصادف أن إلتقتا بسمكة أكبر منهما عمراً تسبح في الاتجاه المعاكس لهما. ألقت السمكة الاكبر عمراً التحية على السمكتين الصغيرتين وسألتهما: صباح الخير يا شباب. كيف حال المياه هذا اليوم؟. أطرقت السمكتان صمتاً، ثم واصلتا السباحة في طريقهما؛ لكنْ بعد حين قصير توقفتا فجأة ونظرت الواحدة في الاخرى: (ما هي المياه بحقّ السماء؟)"….. .
أراد موذوكريشنا، مثلما أراد والاس نفسه، الكشف عن حقيقة جوهرية تفيدُ بوجود أشياء كثيرة في الحياة تبدو لنا حقائق أقرب لبديهيات لا نتساءل بشأنها، وصارت جزءاً متكاملاً ومكمّلاً لمنظومة إحساسنا بالعالم وإدراكنا له؛ ومع هذا فقلّما ننتبه لمثل هذه الاشياء سواءٌ كانت أفكاراً أو شواخص مادية. هذه الاشياء الفكرية والمادية تغلغلت في تجاربنا التي نخوضها في المعيش اليومي، واخترقت كلّ حواسنا، وصارت جزءاً ممّا يمكن تسميته "الشروط الاساسية للحياة".
يتناول الكتاب نوعنا البشري المسمّى Homo Sapiens الذي تنطبق عليه المواصفات أعلاه. تطوّر البشر من أشكال حيوية بدائية شبيهة بالبكتيريا، وخضع هذا التطوّر الارتقائي على مستوى البيولوجيا والثقافة لقوانين مختلفة ومتعددة سيسعى المؤلف لإستكشافها في الكتاب. يؤكّد المؤلف في غير موضع أنّ القوى التي شكّلت تفكيرنا، وإقتصاداتنا، ومجتمعاتنا، صارت مع تقادم الزمن، وبتراكم حسّ البداهة، خفية عنّا. الجهل بهذه القوانين والقوى التطورية معضلةٌ خطيرة لأنّه سيتركنا نواجه إشكالية وجودية عميقة: نحن ما لم نعرف (من نحن؟) و(كيف بلغنا ما بلغناه من تطوّر في هذا المكان"الارض"؟) فلن نستطيع إختيار وجهتنا اللاحقة.
بالعودة إلى حكاية أسماك والاس، وكمقايسة بشرية معها، لنا أن نتساءل: ما النظير البشري للمياه بالنسبة للأسماك؟ ما ذلك الشيء الذي تتأسّس عليه حياتنا البشرية ويمثل الخلفية الجوهرية لكلّ تطوّرنا الثقافي من غير أن نلحظ جوهريته وكينونته الاساسية في حياتنا؟ يرى المؤلف أنّه الطاقة Energy. لطالما إعتقدنا أنّ الطاقة منحة مجانية وهبةٌ طبيعية ستدوم إلى الابد. كلّ موديلاتنا الاقتصادية تقوم في النهاية على مدخلاتنا من المال وما ننفقه منه كمخرجات على صعيد الفرد والدولة، وهكذا تبدو كلّ النماذج (الموديلات) الاقتصادية مثل آلة تتحرّك حركة لانهائية في تبادل مالي بين الشركات والافراد. نعرف من قوانين الفيزياء أن لا وجود لماكنة تتحرّك حركة لانهائية من غير وقود (طاقة). يمكن أن يحصل هذا الامر لو تغيّرت طبيعة الطاقة في حياتنا. كل تغيّر في طبيعة الطاقة المحرّكة للحياة ترافق مع تغيّر حتمي في شكل الموديلات الاقتصادية.
في الوقت الذي يؤكّد فيه المؤلف على الأهمية المركزية لمفهوم الطاقة فإنّه لا يتغافل عن التصريح بأنّ كتابه ليس كتاباً مخصوصاً عن الطاقة بذاتها بقدر ما هو كتابٌ عن الكيفية التي ساهمت فيها الانعطافات الكبرى في شكل الطاقة المستخدمة من قبل البشر عبر حقب زمنية طويلة في خلق فترات من الوفرة abundance التي ساعدت بدورها على زيادة أعداد البشر، وتوسيع مناسيب تفاعلهم مع بعضهم عبر العمل والحراك الاجتماعي؛ الأمر الذي قاد إلى نشوء الصراع conflict الذي قاد بدوره إلى الندرة scarcity. هذا التفاعل الدينامي بين الطاقة والفعالية التطورية هو أحد الدعائم الاساسية لفهم وضعنا البشري كما يرى المؤلف، وهو ما يفعله في فصول لاحقة من الكتاب يعزّز رؤيته فيها بأمثلة بيولوجية وتقنية وسياسية مشخّصة تشخيصاً دقيقاً.
يسعى المؤلف للتأكيد على مفهوم ثلاثي الاطراف يتشكّلُ من الطاقة كقاعدة أساسية ينشأ عنها آليات متباينة من الحراك الاجتماعي، ثمّ يشير إلى أهمية السلوك البشري في كلّ هذا المركّب المشتبك. يكتب المؤلف بهذا الشأن:
" الطاقة قد تكون المفتاح الأساسي لفهم معضلتنا الراهنة؛ لكنْ يتوجّبُ علينا أيضاً أن نفهم الديناميات الأساسية للسلوك البشري.لماذا نذهب أحياناً إلى الحرب في حين نميل للعمل بتناغم تشاركي في أحيان أخرى؟ لماذا نحنُ قساة وطيّبو القلب في الوقت ذاته؟ وما الذي يحدّدُ أياً من هذه الخيارات السلوكية هو ما سيكون له السبق على خيارات أخرى؟………. لو فهمنا المحدّدات التي تخضع لها الطاقة في حياتنا فسنعيد ترتيب فهمنا لكلّ أنساقنا السياسية والاقتصادية؛ لكنْ لو تعمّقنا في فهم سلوكنا البشري فيمكن لنا حينذاك تطويرُ رؤى متّسمة بأصالة غير مسبوقة بشأن كيفية الاستغلال الافضل للطاقة بحيث نضمنُ تعظيم رفاهيتنا وتقليل مناسيب المخاطر والصراع داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة. لو فعلنا كلّ هذا فيمكن لنا حينئذ الحديث عن نظرية موحّدة للوضع البشري: نظرية لكلّ منّا."
مِثْلُ هذه الافكار تتطلب نمطاً خاصاً من الشغف منذ بواكير الحياة، وهذا يعكسُ أهمية التعليم بشأن هذه التفاصيل التي تبدو مغيّبة في أنساقنا التعليمية وبخاصة في العالم العربي. بعد إتمامه الدراسة الثانوية إختار المؤلف دراسة الهندسة في الجامعة؛ لكنه وجد بعد حين أنّ الهندسة لوحدها ليست قادرة على الاجابة على الاسئلة المتكاثرة في رأسه والتي صار مسكوناً بها؛ لذا إختار -بجانب دراسة حساب التفاضل والتكامل والرياضيات المحدّدة وتعلّم الآلة- أن يدرس برامج دراسية في الاقتصاد والعلوم السياسية والبيولوجيا والفلسفة وعلم النفس. كلٌّ من هذه البرامج الدراسية ساعده في إيجاد جزء من الحل للمعضلة الكبرى- معضلة الوضع البشري.
قراءة كتابٍ مثل كتاب موذوكريشنا فرصة ثمينة للإطلالة على أفكار جديدة، وتجربة التفكّر في كيفية الاشتباك المركّب للأفكار والموارد البشرية لتشكيل وضعنا البشري الراهن. الفهم الجيّد والرصين لمثل هذه الافكار هو ركيزة صناعة المستقبل؛ أما لو شئنا غضّ الطرف عن مثل هذه القراءات النوعية فلن نخسر فرصة المشاركة في صناعة المستقبل فحسب. سنكون كتلكما السمكتيْن الصغيرتين اللتين لم تغادرا الماء يوماً ما؛ وبرغم هذا كان لهما الماء طلسماً لا تعرفان -مثل سائر الاسماك- عنه شيئاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الذكرى 150 لولادة شونبرغ

التعالي التكنولوجي في تخيل الذكاء الاصطناعي

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا

تنويعات الوردة

مقالات ذات صلة

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا
عام

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا

لطفية الدليميالسرنديبية Serendipity، مفهوم يعني في بعض دلالاته أن يأتيك الامر مباغتا عن غير تدبّر قصدي مسبّق. لديّ من تجربتي الشخصية مع القراءة بعضُ الحالات التي ترقى إلى مصاف الكشف السرنديبي المدهش. كلّ قارئ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram