بغداد / تبارك المجيد
تتجلى مشكلة الأمية كواقع مؤلم يثقل كاهل العديد من العائلات العراقية. تمضي الأمهات وأولياء الأمور، محملين بالأمل والقلق، يتنقلون بين الحلم بتعليم أبنائهم والواقع المرير الذي يعيق تحقيق هذا الحلم. ففي شوارع المدن وأزقة القرى، يتراءى المشهد: أطفال يحلمون بمستقبل أفضل، لكنهم يجدون أنفسهم أسرى لواقع قاسٍ يمنعهم من الوصول إلى مقاعد الدراسة. يرجع مراقبون أسباب الأمية في العراق إلى عوامل متشابكة، بما في ذلك الحروب والصراعات والحصار الذي عانى منه البلد، وما خلفته هذه الظروف من مشاكل اجتماعية واقتصادية حالت دون إكمال الكثير من الأفراد لتعليمهم، بالإضافة إلى تغييب دور القانون الذي ضمن حق التعليم للجميع. ووفقًا لرئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، فإن الفساد في قطاع التربية خلال العقدين الماضيين، أبرز أسباب تدني مستوى التعليم، يرافقه سوء الإدارة وغياب الكوادر التربوية الحقيقية. تمتلك الدولة العراقية خطوات هامة لمكافحة الأمية وتعزيز التعليم من خلال مجموعة من التشريعات التي تضمن توفير التعليم لكل المواطنين. ينص الدستور العراقي في المادة 34 على أن التعليم حق تكفله الدولة ويكون إلزاميًا في المرحلة الابتدائية، مع تأكيدها على مكافحة الأمية. كما يضمن الدستور التعليم المجاني لجميع العراقيين في مختلف مراحله، ويشجع البحث العلمي للأغراض السلمية ويشجع على التفوق والإبداع والابتكار.
في إطار تنظيم التعليم، يحدد قانون وزارة التربية رقم 22 لسنة 2011 الإطار التشريعي لمراحل التعليم. تنص المادة 11 من هذا القانون على أن التعليم الابتدائي يجب أن يكون عامًا وموحدًا وإلزاميًا للأطفال الذين يكملون السادسة من العمر عند بدء السنة الدراسية أو في الحادي والثلاثين من شهر كانون الأول من تلك السنة. كما يسمح القانون بمد الإلزام إلى التعليم المتوسط عند توفر الإمكانات اللازمة. بالإضافة إلى ذلك، توكل المادة 18 للوزارة مسؤولية وضع الخطط والمناهج الدراسية، وتطويرها ومتابعة تنفيذها، وتوفير الوسائل والأساليب الضرورية لتحقيق الأهداف التعليمية.
وأصدر البرلمان العراقي عام 2011 قانون محو الأمية رقم 23، الذي نص على إنشاء هيئة عليا لمحو الأمية وجهاز تنفيذي تحت إشراف وزارة التربية. يهدف هذا القانون إلى تعليم الفئات العمرية من سن 15 عامًا فما فوق، من خلال مراكز محو الأمية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد. وذكر المتحدث باسم وزارة التربية، كريم السيد، لـ (المدى)، أن «الوزارة حققت تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال منذ عام 2011، حيث تم افتتاح أكثر من 1250 مركزًا لمحو الأمية، واستفاد منها أكثر من مليوني طالب». وأوضح السيد أن «هذه المراكز تقدم برامج تعليمية متكاملة تركز على مهارات القراءة والكتابة، إلى جانب توفير تعليم مهني للنساء مثل الخياطة والحياكة، مما يساهم في تمكينهن الاقتصادي».
وأشار السيد إلى أن «الوزارة تعمل على مراجعة التشريعات الحالية المتعلقة بخريجي برامج محو الأمية والتعليم المسرع، بهدف دعمهم لمواصلة تعليمهم حتى المرحلة الجامعية»، ولفت إلى وجود العديد من قصص النجاح لأفراد أكملوا تعليمهم ووصلوا إلى مواقع متقدمة بفضل هذه البرامج.
فيما يتعلق بإحصائيات الأمية، أوضح السيد أن الوزارة تعتمد على إحصائيات وزارة التخطيط، مشيرًا إلى أن التعداد السكاني القادم سيساهم في تحسين دقة هذه الإحصائيات بالتعاون مع وزارة التخطيط. واختتم السيد حديثه بتأكيد استمرار وزارة التربية في توسيع مراكز محو الأمية في جميع أنحاء البلاد، والعمل على تحقيق مزيد من التقدم في هذا الملف خلال السنوات المقبلة. ورغم عدم وجود أي إحصاءات رسمية تكشف أعداد الأميين في العراق لغياب التعداد العام، فإن إحصاءات نشرتها نقابة المعلمين العراقيين في وقت سابق تشير إلى أن نسبة الأمية بلغت أكثر من 10 ملايين.
تقول أروين عزيز، ناشطة في مجال التعليم، إن مشكلة الأمية في العراق لا يمكن أن تُعزى لسبب واحد فقط، بل هي نتيجة لتداخل عدة عوامل، بما في ذلك الوضع السياسي والاقتصادي، إضافة إلى تأثير الحروب التي شهدها البلد. كما أشارت عزيز إلى أن قطاع التعليم يعاني من الفساد والمحسوبية، وهو وضع يتكرر في العديد من القطاعات الأخرى. ورغم وجود تشريعات تكفل حق التعليم للجميع وتؤكد على مكافحة الأمية، إلا أنها استدركت قائلة إن «الحكومة لم تبذل جهودًا كافية لتطبيق هذه القوانين». وتضيف عزيز لـ (المدى)، أن «نتيجة لذلك، نشأت فجوة طبقية واضحة، حيث استطاع بعض الأفراد إكمال دراستهم، بينما ظل آخرون ضمن شريحة الأميين. وبهذا، يظل التفاوت في الوصول إلى التعليم أحد التحديات الرئيسية التي تواجه المجتمع العراقي». وأشارت إلى أن «انتشار المدارس الأهلية في العراق يعكس التفاوت الطبقي بين المواطنين، حيث يتمكن الميسورون فقط من الحصول على تعليم جيد لأبنائهم، بينما تعجز الأغلبية عن ذلك». ولفتت إلى موضوع زواج القاصرات، الذي يتسبب في ترك الفتيات لمقاعد الدراسة في سن مبكرة، مما يؤدي إلى مشاكل تؤثر على مستقبلهم التعليمي، وفقًا لرأيها. في ذات السياق، أشارت الناشطة والتدريسية آيات البرزنجي في حديثها لـ (المدى) إلى أن الأمية في العراق تمثل «تحديًا كبيرًا ناتجًا عن عدة عوامل متشابكة»، موضحة أن «الحروب والصراعات التي مرت بها البلاد، بدءًا من حرب الخليج مرورًا بالغزو الأمريكي والحرب ضد داعش، ساهمت في تدمير البنية التحتية التعليمية وتدهور النظام التعليمي بشكل عام». وأضافت البرزنجي أن «الفقر والبطالة من العوامل الرئيسية التي تجبر العديد من الأسر على إرسال أبنائها للعمل بدلاً من تلقي التعليم، مما يزيد من تفاقم مشكلة الأمية في البلاد». بالإضافة إلى ذلك، أشارت إلى أن «نقص المدارس والمعلمين المؤهلين، خاصة في المناطق الريفية، يمثل عائقًا كبيرًا أمام تقديم تعليم جيد للأطفال والشباب».
وتحدثت البرزنجي عن تداعيات الأمية، موضحة أن «ضعف التحصيل الدراسي وارتفاع معدلات التسرب من المدارس يعتبران نتيجة مباشرة للأمية». وأشارت إلى أن «تراجع جودة التعليم نتيجة نقص الكفاءات التعليمية يصعّب على الطلاب الوصول إلى مستويات متقدمة في التعليم». وفيما يتعلق بإجراءات الحكومة لمكافحة الأمية، أوضحت البرزنجي أن الحكومة العراقية أطلقت عدة برامج مثل حملات تعليم الكبار، ولكن تلك البرامج لم تحقق النجاح المرجو نظرًا لنقص التمويل والتحديات الاقتصادية. وأشارت إلى أن البيروقراطية والروتين الحكومي، وعدم التنسيق بين المؤسسات المختلفة، يعيقان تحسين فعالية هذه البرامج. وأكدت البرزنجي على أن «المؤسسات الحكومية وحدها لا تكفي لمعالجة هذه الظاهرة المعقدة»، مشددة على «ضرورة تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى الدور الهام الذي يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني في تعزيز الجهود المشتركة لمحو الأمية وتحسين التعليم في العراق».