TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: بضعةُ أيام في سفالبارد

قناديل: بضعةُ أيام في سفالبارد

نشر في: 29 سبتمبر, 2024: 12:05 ص

 لطفية الدليمي

قلّما أقرأ أعمال الفيلسوف (سلافوي جيجك) أو أشاهد فيديوهاته. أراه فوضوياً بحركاته وكلماته المنطلقة من فمه كإعصار منفلت: شيء من الفرويدية على شيء من الماركسية ومناهج التفكيك الفرنسية، كلُّ هذا معجوناً بماء البنيوية (أو بقاياها) مع خميرة من الوجودية وفلسفات سياسية متناثرة. أشعر أحياناً أنّ جيجك أقربُ إلى طبخة (دولمة) تناثرت محتوياتها عند الطبخ بسبب زيادة محتوى الماء فيها. صارت عجينة فيها كل شيء من غير طعم أو نكهة. هو -باختصار- يقول كل شيء ولا يقول شيئاً في الوقت ذاته.
تابعتُ لجيجك قبل بضعة أيام تسجيلاً فيديوياً بدا فيه ضجراً ملولاً وكأنّه شعر بعُقم تاريخه ولا جدواه. ليس هذا غريباً أو مثلبة؛ فكلّنا قد تنتابنا مثل هذه الأحاسيس أحياناً، وأظنّها علامة صحية تدفعنا لمراجعة افكارنا وعدم التشبث المَرَضي بها وكأنها نصوص مقدّسة. أكثر ما لفت نظري في المقابلة تصريحٌ غريب لجيجك قال فيه أنّه يتوقُ لقضاء باقي أيامه في جزيرة (سفالبارد) القريبة من تخوم القطب الشمالي. هو أراد القول: أريد الهدوء والسكينة والإبتعاد عن كلّ أشكال الضوضاء. لقد مللتُ الكلام حدّ الموت. قد لا يبدو تصريح جيجك بتلك الغرابة التي نتوقعها؛ لكنّ الغرابة هي في أنّ بضاعة جيجك هي الكلام، والكلام الصاخب لو شئنا الدقة؛ فكيف تتواءم الرغبة بالسكينة مع كائنٍ بضاعتُهُ هي الضوضاء الصاخبة التي يصنعها أينما حلّ؟
أوّل ما فعلته بعد مشاهدتي فيديو جيجك هو البحث الغوغلي عن جزيرة سفالبارد. قرأت مطوّلاً عنها، وعرفت أنها مجموعة جزر قد تكون للحكومة النرويجية بعضُ السيطرة الإدارية على أجزاء منها. أهمّ ما خرجتُ به من البحث هو أنّ مجموعة جزر سفالبارد هي أقصى مستوطنة بشرية في شمال العالم بها سكان دائميون. توجد بعض الجزر بعدها؛ لكن يقيم بها دورياً بعضُ البحاثة فحسب وليس فيها سكانٌ دائمو الإقامة.
ما أراده جيجك يمثّلُ في التحليل المعمّق واحدة من المعضلات الوجودية الخطيرة في المعيش البشري. تطوّرت الحياة والتقنيات بحيث صرنا عالقين في شبكة تواصلية دائمة تقذفنا بشتى البيانات والمعلومات كلّ حين. قد ندرك نحن الذين عشنا عصر ما قبل البيانات الكبيرة هذه الحقيقة فنلجأ للتخفيف منها بقدر الإستطاعة في توسّل أشكال ممكنة من الإنفراد مع الذات والإصغاء لصوتنا الداخلي الماكث عميقاً فينا، وأظنّ أنّ الشعر والرواية وسائر الإشتغالات الإبداعية ليست سوى محاولات لكبح تغوّل العالم الضوضائي مقابل الإصغاء إلى صوت فردانيتنا الثمينة. لو مات نداء أعماقنا فأظنّ أنّ العالم سيكون مكاناً أقبح عمّا كانه، ولن نكون فيه سوى كائنات عابرة لا تمييز بينها. أعدادٌ مليارية فحسب من غير ميزة نوعية.
أتساءل أحياناً: كيف كنّا سنعيش لو أنّ سنوات الحرب الباردة إقترنت مع التفجر التقني المعلوماتي الذي نعيشه؟ ستكون سنوات أسوأ بكثير ممّا نعيشه اليوم. كانت لنا في تلك السنوات فسحةٌ من زمن تستطيع فيه الإنفكاك من شبكة القيود التي تشدّك إلى العالم ومن ثمّ التفرّغ لبعض شأنك. اليوم لا يمكن أن يحصل هذا. سيلاحقك العالمُ أينما كنت. هل تتصوّرُ أنّ إطفاء نقالك أو تلفازك سيجعلك بعيداً عن القيود التواصلية اللحظية مع العالم ومعضلاته التي لا تنتهي. هذا وهْم. عندما يسكت نقالك فإنّ أبناءك أو أحفادك أو رفقاء عيشك سينطقون نيابة عنه. إنها شبكة محكمة النسج والتصميم إبتدعها أناسٌ خارقو الذكاء يعرفون تماماً ما الذي يفعلون.
ربما سيكون العيش في جزيرة قصية على تخوم القطب الشمالي أقرب لحلم يوتوبي عسير المنال. ماذا لو أراد مليون شخص مثلاً العيش فيها؟ هل ستكفيهم جزيرة صغيرة؟ ثم ماذا لو إنكشف المثال الخيالي عن خواء مطبق؟ العيش في جزيرة مثلجة ليس تجربة يسيرة، وكثيرون سينفرون منها وسيعودون من حيث أتوا، وسيرون في الضوضاء واقعاً أرحم بكثير من العيش في وحدة صقيعية بعيدة. ربما بضعة أيام في السنة ستكون تجربة مقبولة ومعقولة وممكنة من ناحية إدامة سبل العيش.
العيش مشقة متواصلة وليس لعبة نلهو بها دوماً برغم كلّ ما يقال عن جمال العيش، ومعضلات الوجود البشري تتكاثر باضطراد. كل ما يمكن أن نتمناه هو أن تتاح لنا الفرصة والوسيلة للتعامل العملي مع هذه المعضلات. المؤسف أنّ جزر سفالبارد هي اليوم محطّ تنازع بين النرويج وروسيا. أتمنى مخلصة أن لا يقلق هؤلاء سكينة جيجك لو صدق وأقام في تلك الجزيرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

القضاء يحسم 853 طعناً على نتائج الانتخابات

الداخلية: العراق بنى منظومة متطورة لمكافحة المخدرات

التخطيط تتجه لتوسيع الرقابة النوعية لتشمل الصادرات والواردات عالية المخاطر

قبول 1832 طالباً في المنح المجانية لكليات المجموعة الطبية

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram