TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: كرسي تحت شمس خجولة

باليت المدى: كرسي تحت شمس خجولة

نشر في: 30 سبتمبر, 2024: 12:05 ص

 ستار كاووش

شعرتُ فجأة بأني أمشي وسط التاريخ وأتجول بين أزقة سنواته البعيدة، أتحسسُ حيطانه وأشم رائحة بيوته الجميلة المزهرة. هذا ما حدثَ بعد أن غيرتُ إتجاهي من ناصية شارع مونييه نحو بوابة متحف هوسبيس كومتيسه في مدينة ليل، حيث وجدتُ نفسي في عالم مليء بالسحر والرهبة والغموض. فلم يكن المكان بناءً عادياً لمتحفٍ تقليدي تتوزع بداخله الأعمال الفنية وإنتهى الأمر، بل كان يشبه واحدة من الحكايات القديمة الساحرة التي تأخذك مع الزمن وتملؤك جمالاً وفتنة. هنا يَمِدُّ لك التاريخ يده بحنو وأُلفة، وما عليكَ سوى أن تُمسكَ بكفهِ ليصحبك في رحلة مثيرة نحو الماضي الفلامنكي قبلَ ثمانمئة سنة، تتجول وتفكر بعظمة الانسان وطموحاته وتاريخه والجمال الذي صاغته يداه، هذا الجمال الذي لا يريد أن يتوقف ولا ينتهي. فهل هناك أكثر بهجة ورهبة وغموضاً من ذلك؟
تجولتُ بين قاعات وبنايات وحدائق وفناءات هذا المتحف الذي كان في الأساس مستشفى تم بناءه سنة ١٢٣٧ داخل أسوار قصر الكونتيسة جين دي فلاندر، ليكون مأوى للمرضى والمحتاجين، ومع مرور الزمن تغيرتْ وظيفة هذا المكان مراراً، حتى تحوَّلَ سنة ١٩٦٢ الى متحف يحكي تاريخ وفن وثقافة هذه المدينة. حيث يعرض الكثير من اللوحات الفنية وبالخصوص لوحات فنان المدينة أرنولد دي فويز (١٦٤٢-١٧٢٠) والذي رسم أغلب تفاصيل المدينة وكل ما يتعلق بها وبتاريخها، كذلك هناك المنحوتات الخشبية والآثاث والفخار والمفروشات التي تمنحنا شعوراً وكإننا نعيش وسط بيتاً واسعاً ومفتوحاً من بيوت الضيافة، يعكس الثراء والجمال والخصوصية الفلامنكية.
يُعتبر هذا المتحف الذي يعود الى القرون الوسطى ويقع في قلب مدينة ليل، أحد رموز المدينة وأعظم أمجادها. لذا كان عليَّ أن أقضي يوماً كاملاً أتجول هنا وأجلس هناك، أتطَلَّع الى هذه الجدران بلونها الدافيء، وأنتقلُ الى تلك الحديقة التي إنشغلَ بترتيبها بعض البستانيون كما فعل أسلافهم قبل مئات السنين في ذات الحدائق، وهكذا ينتقل الجمال من جيلٍ الى جيلٍ ومن زمن الى آخر.
أتجول بين قاعات المتحف، فيما صورة ليل تُنسَجُ في مُخيلتي شيئاً فشيئاً من خلال اللوحات التي تمثل الشخصيات المهمة والشهيرة هنا، كذلك عِبرَ الوثائق والنقوش والقطع الذهبية والخرائط والأثاث والسجاد، وحتى المفاتيح القديمة والبلاط الملون الذي كان يُغطي أرضيات وجدران المنازل والأديرة، لتكتمل صورة المدينة الفريدة وتتضح معالمها.
لا يخلو المتحف من الآلات الموسيقية أيضاً، ومنها مجموعة نادرة صنعها الأخوان جوزيف وبيير هيل في منتصف القرن التاسع عشر. لكن أكثر ما أعجبني في المتحف هي المنحوتات الصغيرة التي صنعت بشكل خاص كي تُثبت على واجهات البيوت القديمة هنا وبالتحديد فوق الأبواب مباشرة. يا لتعبيرها المذهل ويا للجمال الذي عَبَرَ الزمن ليصل الينا. لقد غابت تلك البيوت ولم يعد لها وجود، لكن هذه المنحوتات الصغيرة قاومت الزمن وظلَّتْ شاخصة وهي تُشير الى الجمال الذي كان موجوداً وتعكس نوع الذائقة التي كانت سائدة، وتحكي لنا أكثر من الحكايات التي نسمعها حول تلك الأبواب التي أُغلِقَتْ الى الأبد وغابتْ مع الزمن.
هذا المتحف يكاد يكون الوحيد الذي عليك أن تتطلع الى أعماله الفنية في الداخل، ثم تتجول بين جدرانه وأسيجته وحدائقه في الخارج. لذا خرجت لضوء النهاء ليغمرني اللون الأحمر للبناء، والذي إختلطَ ببعض الأوكر الذي منحه مسحة كبرياء متفرد. درتٌ حول البناء الذي بدا من الخارج كأنه لوحات تجريدية بحجوم كبيرة، حتى خِلتُ نفسي أسيرُ وسط عالم موندريان أو نيكولاي دي ستايل، حيث إنسجمَ لون الجدران المائل للأحمر مع الأصفر الفاتح للخطوط التي أحاطت بالنوافذ والأبواب، فيما إنبثقَ لون العشب الأخضر الذي غمرَ الحدائق، ليُكمِلَ المشهد الأسطوري لهذا المكان الساحر.
لم أستطع مغادرة المكان بسهولة، لذا عدتُ الى إحدى باحات المتحف واخترت كرسياً وغبتُ تحت الشمس التي كادتْ تغيب أيضاً خلفَ بعض الغيوم، تلك الشمس الخجولة التي بدتْ من بعيد كإنها تراقب المشهد الذي يظهر فيه رسام عراقي ينغمر بين الجمال الذي صنعه الانسان الفلامنكي في هذه المدينة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: الرياض تقرأ

العمودالثامن: حميد النوستراداموس الهايس

العمودالثامن: في الحاجة إلى مسؤول شجاع

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: في البحث عن عيد وطني

العمودالثامن: الرياض تقرأ

 علي حسين لا يتوقف معرض الرياض الدولي للكتاب عن مطاردة القراء وملاحقتهم من خلال غابة الكتب التي توسطت جامعة الملك سعود بن عبد العزيز . عناوين تقول كلاماً واحداً " إقرأ" ، فيما...
علي حسين

كلاكيت: الوثائقي المتخيّل كاميرا بعين مليئة بالخوف

 علاء المفرجي امرأة تبرز بين الجموع، وخلفية الصورة أنقاض بناية تنهار بفعل صاروخ قبل دقائق، المرأة تولول وتصرخ باحثة عن طفليها، المتلقي يعرف انها من سكان البناية المتهاوية، لكنها كانت خارجها من اجل...
علاء المفرجي

واشنطن ودعم الانقلابات القاتلة: ايران 1953

د. حسين الهنداوي (1)خلال فترة ما يعرف بالحرب الباردة (1945-1990) لحماية وتعزيز مغانمهما الكبرى في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وبينما ركز الاتحاد السوفيتي على دعم الاحزاب الشيوعية الموالية له حول العالم ، ركزت الولايات...
د. حسين الهنداوي

الجهلاء لا يدركون جهلهم

د. محمد الربيعي كيف اظهر لنا "تاثير دانينغ-كروجر" ان الجهلاء ليس لديهم ادنى فكرة عن مدى جهلهم. يتساءل الفيلسوف الشعبي البارز ويليام باوندستون عما اذا كنا نبالغ في القلق بشان زيادة الجهل.في هذا المقال،...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram