ياسين طه حافظمشكلة الشاعر حينما يضيف الى امتيازه الشعري امتياز الناقد، ويضيف للشاعر الناقد أستاذية الأدب، انه يجد لزاماً عليه ان يقول رأياً فيما يقرأ من ابداع وبحث وان يكشف ما في طيات المنجز من مُضْمَر يستحق الكشف او ان يشير الى ما يخشى على جمال الادب من تهافت او عيوب.
هذا الانشغال الدائم بالادب وقضاياه صار لصديقنا حياة أخرى داخل الحياة. هنيئاً لشاعرنا الناقد بامتلاكه حياتين احداهما غاية في الثراء ! ولكن ما قد يُشعر" شغيل " الادب هذا بالحزن قليلاً، انه يهتم بكتابات الاخرين وانجازاتهم، بل وحتى ببعض من حياتهم مما له صلة بالكتابة، من دون ان يجد من يهبه نصف ما يهب . لذلك ما حظيت به مجموعاته الشعرية المرهفة المتميزة روحاً ولغة واجواء، من اهتمام نقدي لا يوازي ما يستحقه ابداً ولا يوازي ما كتب هذا الرجل عن الاخرين. فما من شاعر مهم الا واخذ من العلاق حصهً من اهتمامه ومحبته.. واقع قد لا يكون مقبولاً، الناقد يعلن اهتمامه بشعر الشاعر، والشاعر يحتفظ برأيه عما يقرأ من نقد. معادلة لا تبدو عادلة ولكن هكذا هو الادب...مرةً واحدة تسلمت من ابي وصال ثلاثة اعمال، منجزين شعريين وكتاباً نقدياً يجمع بين نقد الشعر والنظرات النافذة للناس والحياة.قراء الشعر، العارفون، يعرفون شعرَ علي و يعرفون اجواءه. حيث خفقات الحياة المضلَّلة بالغيم وحيث الغزلان ليست بعيدة عن الظمأ أو الخناجر. نعرف اكثر تلك اللغة البلورية الصافية التي لا ادري كيف صانها من التلوّث وهو في معمعان اليومي والطارئ وهجوم النشازات التي تصم، تخرق الآذان، وكما يقول القرآن تعمي القلوب.اما الكتاب الثالث فهو ذو الغلاف الاسود مع استطالات بيض وحروف من شذر وبقاع وهج صغيرات تصرّ على الحضور في ذلك المهاد الاسود.الحقيقة اني وجدت في تصميم الغلاف كشفَاَ لما سأقرأ من وجع و فقْد وايذاء واخطاء. وهي بقع، لولا براعة الكاتب الشاعر، ألغَتْ رقة الحرير ونعومته. لقد تحدث عن جملة شعراء التقاهم او تذكرهم، فرأى من التماسّ مع صغائر حياتهم من الصبوات ومن النزق، ومن الحكمة واللاحكمة ومن الشعر واللاشعر ما يجب ان يتحدث بامانه عنه. وهذا يعني ان يذكر كل ذلك مادام قد اوكل لنفسه التصدي والكشف.لكن كيف يذكر كل ذلك ناقد شاعر قارئ مثل علي جعفر العلاق، الودود والعاطفي وايضا الطامع بالرضا والمحبة؟لقد انقذتني كلمة "قبيلة" في عنوان الكتاب اذ رأيت العلاق شيخا يداري المواقف ويقدم حكمة ويوصي بالمحبة ويشير بادبٍ وحنو الى الخطأ، يسبغ على كل ذلك اهتماماً حميماً ورضاً ناعماً.. حكمة "الشيخ" هنا ان خيط الرضا والمحبة هذا هو الذي يبقي الحياة حياةً نستطيع استساغتها.لذلك نتلمس واضحا وراء نظر الدارس المتخصص، وراء المراس النقدي احتفاءً بالصبوة او اللقطة او النادرة التي تبعث بهجة أو تلطف يباس مزاج. هو في اكثر فصولها الكتاب النبيل المفرط بالشجى والمحبة، بين ادراك الناقد الذي لا يفوته الخلل والرصف اللاجدوى منه وبين محبته التي تأبى إلا ان تكون رحيبة .. وانا اقرؤه لحظات الحرج، تتضح امامي حالة : ترتعش شفتاه اكثر من مرة قبل ان يشير الى هِنَةٍ ، وقبل ان يشير كان قد هيّأ عذراً لصاحبها يعفيه عن ان يدافع عن نفسه، فقد قام هو بالمهمة بدلا منه .. هكذا هو في العديد من صفحات الكتاب: يمسح الاذى عن صاحبه إذ لم يستطع تجاوز ما رأى فيه. فهو يوجعه ويقبله ! (قد يكون هذا سلوك أب، ولكنه قد يكون تعلّمه من تعامله مع الجنس الآخر، أقول ربما...) على أية حال، أسأل :كم عانى اذن هذا الذي "رأى كل شيء" فتكتم على ما أدرك من عيوب في الناس وفي الأشعار، او أشار بحذر، وراح يغطي تلك المعايب ما يستطيع بمحبته. شيخ القبيلة ظل حكيماً طيلة الكتاب ظل محباً وهو يدين ، ويشير بإصبع العارف المجرّب الى ما لايُرضي.ما كان "عليّ" يصطنع ذلك، ولكنه السخاء الروحي، ذلك الذي يفتقده الكثيرون، فيسهل لهم الكلام الضد وتصعب، بل تستحيل أحياناً عليهم المحبة ...
علي جعفر العلاق وقبيلة أنهاره
نشر في: 14 يناير, 2011: 06:41 م