طالب عبد العزيز
تسلبك الريحُ الشرقيّة الرطبة متعتك بأوّل الخريف، وبالزهر الذي تفتق توّاً على خاصرة السِّياج، ظلت تغرف من البحر ما شاء لها الى الطاولة، حيث تجلس، تشاركك فنجان القهوة، فيصبح مالحاً، وتحتلُّ ركن الغرفة، فيصيرُ الهواء لزجاً وماءً أجاجاً. تريد أنْ تكتب شيئاً للجريدة، لكنْ لا شيءَ ينسجم مع ما أنت فيه، الجنود الإسرائيليون يعبرون الحدود الى الجنوب في لبنان، فيفرُّ الناسُ، وبيروت التي كانت تتسع تضيق الآن بمليون عابر وعابرة، والطائرات تحلقُ ليس عالياً، فيما أنت ما زلت تبحث عن فكرة تكتبها للجريدة. كان بإمكانك التنزَّه على الشط مثلاً. الكورنيشُ جديدٌ، وبإنارة خافتة، وقلة الخارجين في الصباحات الرطبة هذه تجعل المكان متاحاً، لمن يريد أنْ يقضي الساعة والساعتين صامتاً، مصغياً لأجنحة النوارس وهي تخطفُ، وللأسماك وهي تدنو من الحجر، الذي يبطِّنُ الضفة الهادئة، حيث كنت تجلس دائماً، وحيث كان العشاق والعرسان الجددُ والموظفون المبتعثون من بغداد يصطحبون بعضهم، ثيابهم منشاة، وأكمامهم بأساور وأزرارٍ ثمينة. كان بإمكانك أخذَ لحظات سرورك الى هناك، والقذف بها من نافذة المقهى، ليحملها الجزرُ الى البحر، والمدُّ الى الخلجان علَّ الرَّيحَ الشرقيّة الرطبةَ تخفُّ، تهدأ، وترتضي بالبحر مأمناً، وبالقواقع والاصداف أرائك ليومها البليد هذا. ليست الريحُ وحدها ما يحزنني الساعةَ، قد تهدأ في الليل، كما تقول مذيعة الطقس الجميلة، وليسَ مظروف النقود، حصالتي، التي ظلت تفرغ تباعاً.. إنّما شجرة اليوكاليبتوس التي بالغت السماءُ في رعايتها، فترامحت عاليةً، لو أنها منحت جذورَها القوّةَ والمنعة، لما أخذتها أغصانُها الثقيلةُ الى جهة عند سطح الدار. حاولت أستيقمُها، وجاهدتُ مع نفر من ولدي في إخضاعها لإرادتنا، ولم تفلح معها أعمدةُ الخشب والحبال، فلا مساندَ ولا متكآت.. وهكذا، تأبّت تميل وتنحني، ولولا حجارة البيت لوقع المحذور، وماتت.
هذه الريح تسلبني المتعة والأخرى، وتفسدُ على روحي لحظتها، فلا أنا مدركها، ولا هي تستجيب، يا مذيعة الطقس الجميلة، أطال الله بعمر تنورتك: متى تهدأ الريحُ الشرقية هذه، متى تستعيد شجرةُ اليوكالبتوس استقامة جذعها؟ سيكتبُ أحدُهم: أنتَ تحزنُ لأنَّ شجرةً تضعضعَ جذرُها، ومالت، وانحنت! فأقول أيّما والله، وأكثر من ذلك حزناً، ما صنعت الرّيحُ الشرقيةُ اللعينةُ بالعصفور الأبيض، الذي انقلب بالقفص، ونهشت لحمَه الرطبَ قطتُها السوداء، وما آلَت اليه زريبة البقر، التي ارتفع سقفُها وانحطَّ بعيداً، عن حشد المسكينات تلك، وبصفحة القرميد، قطعة قلبي الأحمر، التي تبعثرت، وبقميص ابني الأزرق على السطح الذي لم يعد قميصاً، وبعباءة زوجتي وهي تندسُّ بغيمةٍ سوداء، في البعيد، وبالزورق الذي أوثقتُ حباله الى حجارةٍ على الشاطئ.. أنا، أُعنى بهذه وتلك يا صديقي، فهي أشيائي التي لم تأبه صحفُ الأولين والآخرين بها، ولم تدخل بأحاديث السياسة على الفضائيات، ولا يريد أحدٌ لها البقاءَ حيث تنمو وتتجدد، هي أنا، وما أسستُ له منذ سبعين عاماً، وهي أنا، وما عملت على صنعه وإدامته وحرصت على رؤيته جميلاً ومعافى، هي جسدي الذي تعفر بتراب الحدود، التي لم أعد منها بعد، فسلسلة حروبهم ماتزال، وهي الفردوس الصادق الذي لا أريد أنْ يعدني بغيره أحدٌ.