عباس عبد جاسم
تشكل ديكتاتورية الراوي سلطة مهيمنة في رواية " عكاز إبليس" للروائي عباس الحداد ، وعلى الرغم من أحادية الصوت الواحد لهذه الرواية، فإن سلطة الراوي تسمح بتعدّد البنيات الحكائية لكسر هذا النمط الاحادي بصيغ متعدّدة من اللعب بقواعد السرد، وخاصة على مستوى تحطيم مبدأ إرتباط السابق باللاحق أو التلاعب بصيغ الروي لتحييد سلطة الراوي الطاغي وإن لم تنقلب عليه، لهذا لم يستطع الروائي أن يطرد الراوي من الرواية، فقد تداخلت وظيفة أحدهما مع الآخر بصيغة ملتبسة.
وتنبني الرواية على آليتين في الكتابة:
اولا ُ – آلية التذكر؛ ونعنى بها: ذكرى السبي/ ذكرى نحر(أم خدر) ذكرى ضياع النرجس) / ذكرى إعدام الشاب(صفاء) الرواية / ص 147.
ثانيا ً – آلية الحكي؛ ونعنى بها: حكايات (سبيه)، وتضم تسع حلقات تتصل فيها الحكايات من حيث تنفصل عنها المذكرات.
وان كانت " الرواية " هي " حكاية "، فان الحكاية ليست حبكة، اذ قد تكون بنية أساسية لها، ونعد حكايات " سبية " إنتقالا ً من حكايات " العين" المتمثلة بالواصف المتأمل لوصفه الى حكايات " الأذن " المتمثلة بالسارد المستمع لسرده.
وسواء أكانت هذه الرواية متخيلة أو رواية مذكرات، فهي مدوّنة لمعاناة الذات في البحث عن الخلاص، وما يهمنا منها " الوقائع الحقيقية " أكثر من " القيم الجمالية "، ولكن أكانت ذاكرة الراوي: محايدة أم منحازة أم غير موضوعية؟
في آلية التذكر؛ تبدأ كل حكاية بنسق مرقم خاص بها من حيث ينقطع الحكي التالي له بسرد اعتراضي، لتستمر متواليات السرد بين جدار وآخر، وتضم هذه الآلية بحسب ترقيم الروائي تسع حكايات مرقمة، يتعرَّض فيها السرد الحكائي الى وقفات حكائية قاطعة لسياق المروي، مما تتخلّق منها فجوات منفصلة متصلة من خلال رواي عليم يروي الأحداث من وراء الكواليس.
ولكن قبل أن نقوم بفصل الصوت الواحد عن البنيات المتعدّدة، لابد من توجيه إنتباه القارئ الى آن " دولة الخلافة " قامت بانتهاك ما هو محرّم ومقدس في الاسلام، بما في ذلك " أسر، وتهجير، وبيع الايزيديات بالمزاد " في قرية (كوجو) شمال العراق، وارتكاب الابادة الجماعية لشعب أعزل فعلا ً.
ومن بؤرة نوبات الوعي ينبثق السرد: فقد حمل الدواعش (سليم بن حسين) كغنيمة حرب، بعد قتل الآب والآم في أحداث الموصل، وعمره سبع سنوات، لينشأ ويتربى على " ميول عدوانية "، وأول بنية مشهدية واقعية بصيغة متخيّلة تتمثل بما قام به " المجاهد سليم " عندما تناول سيفا ً صغيرا ً من يد الأمير أبو حمزة: " تأمل رفاقه الذين كانوا ينتظرون بلهفة إنتهاء مهمته، ووجه الأمير الذي بدا سعيدا ً، وفخورا ً، وبحركة سريعة سحب (سليم) سيفه فنزّ الدم الأحمر الحار من الرقبة المدلاة " الرواية/ ص 26.
ويتساءل سليم بعد أن قضى ثمان سنين في أحضان داعش: "هل كنت غائبا عن الوعي؟ " الرواية / ص 91، ومن وعي الغربة يبدأ وعي سليم بذاته، فالغربة بالنسبة له " كائن خرافي يعلّم الانسان كيف يبقى حيا ً بدون إنسانية " الرواية: ص 29، وقبل ذلك كان يعاني من فقدان الأبوّة والأمومة، ولم يعد لديه ما يخسره أصلاً، حتى أنه فقد " المرأة الأرملة – أم خدر " التي حملته كطفل عزيز عليها، وكيف رأى الأمير(أبو حمزة) يغتصبها على مرأى منه، وبقيت هذه المرأة الايزيدية تراوده " كالحلم " كـــــ " راسب تحتاني ".
وعلى الرغم من الندب الذاتي الناتج عن ترك (أم خدر) منبوذة بين إيديهم القذرة، فإن هذا المشهد ألقى بذرة التمرّد في ذاته على الدواعش، ومن تلك اللحظة إتخذ قراره في الثأر منهم، والبحث عن طريق آمنة في الخروج منهم وعليهم، بعد أن أدرك بأن الكل في حياته إنتهى، حتى ضاع كل شيء، فأستّبدّت به الكوابيس المرعبة.
وقبل ذلك أهداه الأمير أبو حمزة صبية كأنها حورية جراء تنفيذ احدى عمليات الاغتيال، ولكنه كان يتمنى ان يكون الثواب الحقيقي: " أن يُمنح رتبة أعلى بين جماعته الفتيان، أو أن يقرّبه الأمير، ويصبح من حاشيته المدللّه " الرواية / ص 78.
ثم تظهر " نرجس" بوصفها "عقدة الرواية "، ثم تختفي فجأة، بعد أن " استوطنت قلبه كغصة " الرواية/ ص 90، فقد كان إختفاء (نرجس) تلك الصبية بنت قريته (كوجو) الشرارة المحرِّكة والدافعة له في الخروج على داعش، وبدا له الطريق في التحرّر منهم محفوف بالرعب والمخاطرة والخوف والموت، حتى إستبدت به دوّامة من الصراخ وعويل لا ينقطع، وإحساس بالألم، وشعور بالغثيان، وكأنه مَهدّد من الداخل، وصار يتحرّك وكأنه " شبه ميت " لدرجة لم يعد يحتمل الصمت، وكأنه إستعاد الوعي بذاته من جديد عبر دوّامة من الأسئلة: " ما الذي يحدث لي؟ " و " أشعر أن في داخلي شيئا ً ما تهدّم، إنكسر، وما عاد بالامكان اصلاحه، هل الذنب ذنبي؟ الرواية / ص 141، 159.
أما حكايات (سبية) فهي ذات أشكال دالّة، وما يعنينا منها الكيفيات التي تُروى بها، وفي هذه الحكايات تتحرّر الشخصيات من دكتاتورية الراوي، لتروي ما حدث لها بصيغ ديمقراطية، لهذا ينبثق السرد فيها بطرق متحرّرة من رقابة الوعي الداخلي، وفيها تنتهك آلية الحكي التسلسل الواقعي لها، وكأنها حالات سائلة تتجاوز جماليات التعبير القصصي بخراب الواقع، وماينطوي عليه من دلالات حافة.
وبذا يتعرّض الزمن الخطي في هذه الحكايات الى إنكسارات حادة في صيغ الروي، مما ينتج هذا التكسير- بنيات زمنية متقطعة في بناء سيرورة المحكي التي تنشطر فيها وتتشظى الحكايات الى فجوات وتوترات ومسافات لا نواظم بينها.
ومن هنا نرى بأن حكايات (سبيَّة) تقوم بوظيفة التدوين الموثوق بالاعتراف الشخصي حيناً، وبصيغة البوح الذاتي حينا آخر، وإن لم يخلو من شذرات التخييل وآليات الحلم وطرائق التذكر، لأنها أكثر تركيزا ً على فردانية الذات، وتاريخ الشخصية، واعني بها " حكايات – السبية – نرجس ومذكراتها.
ولكن ينبغي ان يعرف القارئ كيف تنبثق هذه الحكايات من فم الساردة (نرجس) أكثر مما لم تقله هذه الحكايات؟
ونعد (الحكاية الخامسة) النقطة المركزية لمدار ما تبقى من الحكايات الأخرى التي تتحرّك بألسنة متباينة أو بأصوات متقاطعة من خلال بلبال الواقع، حيث تظهر شخصية (مالك كامل علوان) بوصفه منقذ (نرجس)، حيث أنزلوها في معسكر(الباغور) في واد على نهر الفرات، وأسكنوها في خيمة بصحبة فتاتين من الموصل؛ (حسو) و(عبدو)، فقد روت (حسو) في (الحلقة السادسة) من حكايات (سبية) مشهد الاغتصاب: " لقد كانوا خمسة رجال غلاظ القلوب، شداد الأبدان، ولشهر كامل تناوبوا على جسدي المنهك. كنت أنتقل من حضن الى آخر بجسد ميت لا روح فيه كخرقة بالية " الرواية/ ص 118.
ثم ينكسر السياق المحكي بسياق آخر بلسان الراوي العليم. وفيه يتسلّم سليم المظروف، فيتأمل فيه صورة الرجل المرشح لإغتياله: " قهقه سليم بسخرية مفجوعة وقام يرقص وسط غرفته رافعا ً يديه الى الأعلى كمن مسّه الجنون، فجأة توقف عن الحركة، ثم عاود رقصة الديك المذبوح" الرواية / ص 121.
كانت الحكايات، وغيرها؛ تروى بلسان السبية (نرجس)، وتعد (الحلقة الثامنة) منها نهاية السبي، وفيها تستعيد مشهد إغتصاب امها على مرأى منها، وهي صبية في السابعة من عمرها، وكان سليم يقرأ ما نثرته (نرجس) من كلمات على صفحتها في الفيسبوك، وما دونته من معاناة الاهانة والضعة والاذلال من جهة، ومكابدات سليم، وكيف " تسلّل الحزن الى قلبه والى رأسه " من جهة اخرى.
وثمة تشيد من اللاوعي يدور في أعماق سليم بصيغة التكفير عن القتل والسبي والتفجير بضمير معَّذب بالأسئلة .
وتقوم الشخصيات الروائية في هذه الحكايات بوظيفتين .. كأنوات ساردة أولا ً، وذوات مسرودة إليها ثانيا ً، أي كأدوات وموضوعات ، وهي بذلك تمثل سرداً حكائيا ً غير محايد ، لهذا لم يكتف السارد المستمع لسرده بالانحياز الى الهامش الايزيدي المسحوق بالامتهان الجنسي والقهر الاجتماعي ، وانما يتبنى شفراته الايديولوجية المضمرة بدلالات إنتقادية حادة ، حيث تنظر ( نرجس) الى سليم بريبة وحذر وتسأل :
" ألست أسيرا ً مثلي ؟ / قال سليم بشيء من إعتداد النفس : لا ؛ أنا مجاهد في دولة الخلافة " الرواية / ص 111 ، كما سألنه بتحد كي توقظه من غفوته :
"أليست هذه الدولة ذاتها التي قتلت والديك دون ذنب؟ " الرواية / ص 112.
وثمة حكي جوّاني ، ولكنه مأهول بالتخييل – وعلى الرغم من ديكتاتورية الراوي ، وما يتمتع به من سلطة طاغية في ضبط التفوهات السردية ، فإن الروائي يجعلنا نلمس بأصابعنا أوجاع الشخصيات التي يحكيها لنا ، لدرجة تتداخل فيها أفكار الروائي مع صيغ الراوي في حوار ديمقراطي مفتوح ، هذا على الرغم من أن الروائي يتمسك بـ " لحظة التنوير " الكلاسيكية حتى نهاية الرواية ، وخاصة ما يتعلّق منها بآخر مهمة لسليم لإغتيال ( مالك كامل علوان) ، الذي صدمه بحضوره المفاجئ :
" أليس أنت السيد (مالك) الذي انقذ حياة ( نرجس) من بين أيدي الاعداء" الرواية / ص 166 .
في هذه اللحظة ولد سليم من رحم الأحداث من جديد ، ليتجه نحو الانعتاق ، وهو بصحبة ( مالك ) في الطريق الى ( نرجس) .
وعلى الرغم من أن ديكتاتورية الراوي تتحكم في بناء الرواية ، فإن الصوت الأحادي يتعرّض الى تشققات روائية تفضي الى فجوات وصفية وسردية تمتلئ بحالات ذاتية ومذكرات شخصية " مسكوت عنها " ، وبذا لم يعد الراوي ذاتاً من صنع الروائي ، وانما أصبح هو والروائي تابعين للرواية .