طالب عبد العزيز
أنفاسي التي لا أقوى على استرجاعها هي ما أتحدثُ عنه، اللحظةَ الغائرة في أفق الدهور ما أريد، اليومَ صنوَ الامس، بقشعريرة جلدي في تذكره ما يستفزني، السبيلَ الى ما يشغلني عنك هو ما لا أحيدُ عنه دائماً، كنتُ ولم أزل المتقلبَ في جرثومةِ المعنى، الموقوفَ على سبائك النور والإجابة… أمّا أنت: أيّها المبتذل في الصور، المتفشي في الطلب والدعوات، فما أكثر ما يشغلني عنك، بل، وما أبخس ما تدعوني اليه، وما تطلعني عليه في متون الحكايات.
بلى، أنا الهامشُ، الذي أهمله المتعجلون، فطيرو الرأي، المموّهون في الرسوم والاخيلة، لكنني أتطاولُ في ليل الحروف شجراً، أدناه ساق العرش، ولي في الأسباب ما يُركسك ويُعجزك، وفي البراهين ما لا قِبل لك به، أضاءُ بشمع أنفاسي، وأذبلُ، ثم أُضيءُ وأذوي، ثم أضيءُ وأذوبُ وأفنى…. ليس من كبرٍ، ولا من صَغار، لكنها بغضائي التي أحرقتُ شأفتها، وخلصتُ، فلا استحضرها إلّا مفجوعاً، ولا أدعوها إلّا معتبِراً. منذ عقودٍ ستة أجهزتُ على ذئاب روحي، وهذا أنا في حقول الضوء أكثر مني في قيعة التردد، أضع قدمي حيثُ اردتُ، ولا أتبعُ عصايَ، أنا عوسجةُ ظلماتي على الطريق، أفْزِعُ كلَّ قبرةٍ، وفي قلبي من الهديل ما يجعل الحمائمَ يقظةً الى الابد، والى حيثُ توجهتُ بأغنيتي، كنتُ القبلة الطريةُ في كلِّ عناق.
ما أحبّرُهُ هو ما ينسرحُ على الاسيجة، في الصباحات الأولى، وما أقرّبه من يدي ذاك ما يتبرعمُ في الليالي الموحشات، يمرُّ الرعاةُ بكلماتي، فيأخذونها عشبةً لشياههم، ويمرُّ الطهاةُ فتزيّن طبيخَهم، أنا حشدُ النايات على الطريق، أبعثرني ساعةً من النهار، وأجمعُني ساعةً أخرى، لا أهلك اللهُ المروءاتِ، فهنَّ صويحبات دمي، هذا الذي يستزلُّ قدمك، ذلك لأنك لن تأخذَ الشفقَ الى سريرك امرأةً، ولن تحنوَ على فسيلٍ تسمّيه أباكَ، ولنْ تحملَ على ظهركَ حجراً تدعيه أفقاً ومعنى، ولن تورقَ من يبس بليل، ولن تزهر من رفقة بنهار، ولن تبلغ ماءكَ الذي يصعدك في كلِّ مدٍّ.
هذه الأطيانُ تسكنني منذ آلاف السنين، عجينة جسدي وملاطه، وتلك الأحجار أقذفها فتستحيل شجراً ومنائر وصبيانا.. وهذه الانهارُ التي تشقُّ التراب من الشمال الى الجنوب، وتلك المسارات التي تتخذني لظلماتها أحياءَ ومقتولين، ذاك المتقلب في الالواح وفي الرقم ما أرجعني فيه، وما أطهر انتمائي اليه، هذا الذي ارزح تحت مسلته، وتسقط عليَّ أجنحة ثيرانه، الحرفُ المرتفعُ، والماثلُ في قلب الجدار هو ما يغرقني بين المتحاربين، وما يختمر في أقلام الكاتبين، وما يفصل بين الضوء وعدمه، بين الوتر ومن يحاوره، وبين ما تعمله في النهار وما تستدرجه في الحلم.
لِمَ جعلتني لاهياً عن القمر وهو يطلُّ من ثلمة الغابة على جهلي به؟ لِمَ تركتَ الشمس تشرق وحيدةً؟ أنت تشتقُّ من الظلام لوناً تسميه (ما يهمله العُمي). لذا، اجلسْ وحيداً، فكّرْ بما يساقطُ من حولك، وإن كنتَ لا تنتظرُ أحداً، اجلسْ، ستأتي الفكرةُ، وإن لم تأت، ابقَ وحيداً. لا تقلق من ترادف الأسئلة! هي هكذا دائماً، لا تنقطع إلا لتترادف، اجعلها خاصةَ رحلك.. وابقَ. الاسوأُ من ذلك هو أنْ تذهب مع أحدهم، أو يسلبك الباقون لحظتك الخالدة.