نعمه العبادي
على الرغم من ان "نهج الصراع" هو العامل الأساس الذي شكل معالم ومحددات هذه المنطقة، لكنه تضاعف بشكل مخيف ومرعب منذ اكثر من ثلاثين سنة، وقد تداخلت خطوط الصراع والاشتباك بشكل يصعب حتى وصفها فضلا عن فرزها وتحديد اسبابها، ويعود هذا التعقيد الى: (عدد ونوع الفاعلين المؤثرين، حجم وطبيعة الاهداف والغايات المقصودة، الخصوصيات الثقافية والدينية والسياسية والامنية للمنطقة وشعوبها، حجم تأثير العوامل الخارجية فيها، علاقة السلطة بالشعوب، تفردها في جملة من السمات والخصائص)، الامر الذي جعل من كل مقاربة تقدم تفسير عما يجري فيها، تحمل نحو من الصحة، لكنها، لا تقدم تفسيرا كاملا وشاملا، كما ان التوقعات والاستشرافات، تبدو شبيه مستحيلة في ظل تحولات عميقة، تحدث خلال ازمنة متقاربة، لذا يبدو النظر إليها من مسافة قادرة على رؤية المشهد بحجمه المناسب، تحديا عظيما امام من يريد رسم صورة لحاضر ومستقبل المنطقة.
توجد آلاف المقاربات التي تحاول الامساك بالمحور الرئيس لهذا الصراع، ومع هذا التعدد الواسع يمكن القول بأنها تتمثل في اتجاهين رئيسين، الاول: يرى بأن الطاقة وتحديدا النفط هي مركز صراعات المنطقة، والثاني: يقول ان الدين هو المركز وحوله تدور كل الصراعات الاخرى، ومما لاشك فيه، ان كلا من هذين الاتجاهين يعدد مراكز اخرى للصراع، لكنه يعدها ثانوية بالقياس الى المركز، واستنادا الى هذين الاتجاهين، تأتي القراءات والتحليلات ومقاربات الحلول. يجد القائلون بمركزية الطاقة سهولة في توصيف المشهد وتشريحه، إذ تظهر مجموعة من المعطيات الموضوعية التي تساعد على هذه السهولة، فيما يعاني الاتجاه الثاني من صعوبة القبض على الشواهد والمعطيات التي تدلل على مركزية الدين، كما ان مقاربات الحلول صعبة، بل تكاد تكون مستحيلة في الكثير من الاحيان، فالبراغماتية متاحة بشكل كبير بناء على مقاربة الطاقة/النفط، لكنها متعذرة وصعبة على القول بالاتجاه الثاني، فهناك نتحدث عن المصالح وهنا نتحدث عن المباديء، ويتجه المسار العام في منظور مركزية الطاقة الى ضرورة المحافظة على ايقاع الصراع، بينما يغذي الدين كمركز للصراع في الاتجاه الثاني حالة التوتر والتصعيد الى اقصى ما يمكن، ويعمل على التعبئة بكل ما يملك من وسائل. عند الابتعاد عن النظرة التجريدية وملامسة المشهد الواقعي نجد الآتي:
١- انخراط متفاوت للقوى الكبرى في احداث وشؤون المنطقة، وتتغير مؤشرات هذا الانخراط من لحظة الى اخرى، لكن الاكيد بقاء الوجود الامريكي بأشكاله المختلفة حاضرا وبقوة في المنطقة، مهما تغيرت الادارات وتبدلت الظروف. ٢- يمثل الامن التحدي الاكبر لدى دول وشعوب المنطقة، وتختلف مسببات فقدانه وتأمينه من بقعة الى اخرى. ٣- السمة العامة تتمثل في وجود ازمة شرعية الحكم، إذ تعد معظم الانظمة مفروضة على شعوبها بالقوة. ٤- تعتمد معظم الانظمة غير الشرعية على العامل الخارجي في الاستقواء على شعوبها. ٥- هناك هشاشة واضحة في الحياة السياسية، ولا تزال كل الاحزاب والوجودات السياسية ادنى من كونها مؤسسات سياسية مؤهلة لممارسة الحكم بشكل مستقل. ٦- تعيش شعوب المنطقة ازمات نفسية وثقافية واجتماعية، تنعكس على مجمل تفاصيل الحياة. ٧- يمثل الكيان الغاصب المشكلة الاعقد من حيث: (طبيعة التعاطي الامثل معه، حجم الاخطار والتداعيات التي يفرزها وجوده، الانخراط العالمي غير المشروط في مساندته ودعمه، ارتفاع كلف مواجهته، حجم ونوع القدرات التي يمتلكها وحدود تأثيرها). ٨- لا يتغير الوزن النوعي لحجم خطورة الكيان الغاصب سواء قيل بمركزية الطاقة او قيل بمركزية الدين. ٩- معظم المقاربات التي تأتي لحل عقدة صراع المنطقة تأتي من الخارج، وتحديدا من الفاعلين الخارجيين المنخرطين في المنطقة وشؤونها. ١٠- إن اكثر العوامل تأثيرا والذي يجرد المنطقة كليا من قواها الذاتية يتمثل بالانقسام حول خارطة الاعداء والاصدقاء والاخطار والتحصينات، فما عند بلد او جماعة عدو، عند غيرهم صديق، وهكذا الحال بالنسبة للاخطار والتحصينات.
يتلخص حاضر المنطقة في: طغيان وجموح للكيان يدفعه بشكل جنوني لتحقيق رغبته المؤكدة في الاستيلاء على كل ما تصله قوته، وتحطيم وتدمير كل قوى وعناصر المواجهة والممانعة، مدفوعا ومدعوما ب: ١- مساندة دولية غير مشروطة ومفتوحة لكل المتطلبات، وفي المقدمة تقف المساندة الامريكية والاوربية. ٢- تخاذل وتآمر لطيف واسع من الحكومات العربية وعدد غير قليل من شعوب المنطقة. ٣- ما حققه الحلف الصهيو-امريكي من تصفية قيادات مهمة في المنطقة لها تأثيرها البالغ في معركة المواجهة. ٤- نجاح دعايته وحربه النفسية في تعزيز الانقسام بين الدول والشعوب، والتأثر البالغ للمجتمعات بها. ٥- حجم التطور الاستخباري والتكنولوجي المسخر بين يديه سواء من قدراته الذاتية او مما يقدم له سخيا من الجهات الداعمة. في المقابل هناك رغبة واضحة وصريحة لقطاع غير قليل من حكومات واجزاء من شعوب المنطقة، تؤيد وتدعم هذا الطغيان، وتؤمن على افعال الكيان وحماقاته، بل تتخادم معه بشكل واسع، ولولا هذا التخادم الواسع لما استطاع الكيان ان يمضي بالاتجاه الذي يسير إليه الآن. يقف بالضد من هذين المسارين (الكيان وعملائه)، عدد محدود جدا من دول المنطقة، وتنخرط قوى ووجودات من شعوب دول المواجهة في الصراع مع الكيان بشكل عملي، إذ يتقدم الصفوف رجال الله في لبنان ومن يقف معهم، وتمثل ايران العامل (التكتيكي والاستراتيجي) الاهم في هذه المواجهة، طبعا هذا كله مع التسليم بالاهمية القصوى والحصرية للمقاومة الفلسطينية وتأثيرها الحاسم في الصراع. ما بين هذين الاتجاهين، يوجد طيف واسع من الشعوب العاجزة او المتعاجزة، التي ترفض الكيان وسلوكه، لكنها غير مستعدة الى فعل من افعال المواجهة، كما انها منشغلة بشكل كلي في شأنها الخاص، والذي نجح المحور الصهيو-امريكي في اشغالها به، وهي محبة للعافية، وتعتقد ان عدم الانخراط هو السبيل الاسلم لبقائها. تتحرك عدة ديناميات بموازاة الصراع مع الكيان في المنطقة منها:
- التحولات الثقافية والاجتماعية التي تشهدها بعض دول المنطقة وفي مقدمتها السعودية. - استمرار وتزايد الهشاشة السياسية والامنية في الدول التي شهدت تغيير انظمة خلال الموجات الاخيرة. - بقاء جماعات الارهاب والعنف والتطرف مؤثرة بقدر غير قليل. - ميل جامح نحو التطبيع والتماهي مع الكيان الغاصب. - شعور باليأس أزاء بعض تجارب التغيير في المنطقة. - زيادة في انخراط العوامل الخارجية للتدخل في شؤون المنطقة. تنحصر المقاربات التي تحف هذا المشهد ما بين مهادنة جبانة ورضوخ كامل، وبين مواجهة حمراء محفوفة بنزيف لا ينقطع، ويدافع كل من هذين الاتجاهين عن موضوعية مقاربته وجدواها. منذ قرابة القرن من الزمن، ظلت اتجاهات الفهم المنقسمة بين محورية الدين ومحورية الطاقة/النفط، عاجزة عن كشف طلسم التأثير السحري لهذين العاملين في هذه المنطقة بالشكل الذي تظهر فيه، ونحت مقاربات سردية " النفط مصدر الصراع" الى الاعتماد بشكل الاكبر على التنسيق مع العوامل الخارجية، واعتبار الحاجة الى الطاقة ضمانة لأمنها، وإن اشراك العامل الخارجي في مغانمها شرطا وجوديا، وتفرع على ذلك، ان الرفاهية الاقتصادية تنتج عدالة سياسية وشعوب فعالة، فيما ذهبت مقاربات سردية الدين في الاتجاه المعاكس تقريبا، فحلولها تكمن في التحصين وتجريد العامل الخارجي من التأثير لانه المتهم الاول في توظيف الدين للصراع، وعولت على بناء الامة بشكل اكبر من تعويلها على بناء الدولة، ووجدت في الآيدلوجيا طريقا للتماسك ورسم المواقف على خطوط واضحة لتحديد: (المع والضد). استنادا الى بقاء محركات الحاضر التي تمت الاشارة إليها في العرض اعلاه، يمكن استشراف مستقبل المنطقة في الآتي:
١- استمرار غياب مشروع الدولة بالمعنى الناضج لهذا المفهوم، ويرافقه تراجع في التقاليد المؤسساتية لصالح اشكال جديدة من الحكم قائمة على شبيه ديمقراطيات. ٢- تزايد انخراط العامل الخارجي في المنطقة، وارتفاع حدة الصراع في خطوطه المختلفة من اجل انتاج (تسويات حصصية على حساب حقوق شعوب المنطقة) تكفل للجميع سهمهم من الكعكعة. ٣ - تزايد تغول الكيان وعنجهيته خاصة مع الصمت العالمي والانبطاح العربي واتساع رقعة المطبعين. ٤ - ارتفاع كلف المواجهة لمحور الشرف والعزة، ولكن ذلك يساعد في انتاج اشكال جديدة من المواجهة لها معطيات عالية من الردع واجهاض فعل الكيان ومسانديه. ٥ - يبقى الدين والنفط محركان رئيسان لكل صراعات المنطقة، وسيكون الصراع المرتكز على الدين اكثر ضراوة وشراسة. ٦- تخدم معظم التحولات الدينية والثقافية والاجتماعية التي تفرضها بعض الانظمة مصالح التدخل الخارجي وتتخادم معها. ٧- تتزايد فاعلية التكنولوجيا بوصفها اكبر من اداة، إذ تساهم في رسم انماط تصورات المجتمعات تجاه معظم القضايا. ٨- تتراجع اسئلة الحياة السياسة لصالح تقدم اسئلة الحياة الشخصية، وتتزايد مطالبات الحرية ولو على حساب مشروع الدولة، ويتناقص ضوء المجتمع لصالح سطوع نجم الفرد. ان هذه المسارات ليست قدرا حتميا لا مفر منه، كما انها ليست نتائج محسومة، بل هي نهايات موضوعية للاوضاع الحالية، لكن هناك بالامكان فسحة واسعة لتغيرها كليا بالاتجاه الذي يقلص، بل ينهي سطوة العامل الخارجي ويكسر شوكة الكيان وربما يمحوه كليا، وذلك يتحقق من خلال الآتي:
اولا: اعتبار مشروع الدولة بمفهومها الكامل والمستند الى الدستور الذي يعبر بصدق عن وجهة نظر الشعوب بمختلف تلوناتها، مطلبا اساسيا ورئيسا وبوصلة نضال لكل شعوب المنطقة.
ثانيا: اجراء تغيرات في كل دول المنطقة ذات الحكومات الشمولية او القائمة على التوريث والتعيين، لصالح ديمقراطيات تمثيلية، عادلة وشاملة، على ان تكون عملية التغيير مستندة الى جهود داخلية ونابعة من صميم الشعوب بعيدا عن تدخل العوامل الخارجية.
ثالثا: الابتعاد عن المقاربة المستوردة التي تلهث خلف علمانية زائفة، وتقديم تصورات موضوعية تأخذ بنظر الاعتبار الخصوصية الدينية والثقافية لشعوب المنطقة من خلال اعطاء الدين موقعه اللائق والمناسب والفاعل في بنى الدولة.
رابعا: العمل الجاد على نزع مخالب الطائفة والمذهبية والصراعات الجماعتية لصالح نهج الاخوة ووحدة المعتقد وعلوية التوحيد.
خامسا: اتخاذ موقف واضح وصريح وعملي من جماعات الارهاب والتطرف والعنف.
سادسا: اعادة الكيان الغاصب الى موقعه الحقيقي في قائمة الاعداء والاصدقاء بوصفه العدو الاول والاهم والاخطر وغير القابل للمصالحة مطلقا.
سابعا: يتفرع من النقطة سادسا: اعتبار خيار المواجهة والمقاومة نهجا شعبيا يرتكز على رؤية الدولة والدين، وحشد كل طاقات الامة من اجل حسم المعركة مع العدو. اخيرا: اتمنى من الباحثين والمختصين ان يوسعوا البحث في التفاصيل والاشارات التي تضمنها المقال من اجل بناء رؤية معرفية استراتيجية، تشكل ارضية مناسبة لحراك منتج، كما ارجو من كل المهتمين اقتطاع فقرات ونصوص من هذا المقال وتوسيع نشرها ليسهل تداولها من قبل عامة القراء.