ستار كاووش
لم أتوقع أبداً أن القطار الذاهب الى فيينا سيغير طريقة كاملاً. فعندَ إنطلاقه من شمال هولندا بدا كل شيء طبيعياً، لكنه ما أن توقفَ في مدينة (لير) التي هي أول محطة ألمانيَّة، حدثَ ما ليس في الحسبان. فقد تغير طريق الرحلة تماماً بسبب حريق سمعت عنه لكني لم أعرف تفاصيله، وهكذا بدلاً من الذهاب عن طريق (بريمن) كان عليَّ أن أركب قطاراً آخراً الى مدينة هانوفر ثم أكمل الطريق. وصلتُ الى هانوفر، لكن إنطلاق القطار تأخر أيضاً من هناك، بل وأكثر من المرة السابقة، وقد تناهت لسمعي من جديد كلمة حريق. نعم كان الجميع يتحدث في هذه المحطة عن الحريق، حتى موظفي القطار الذين كانوا يرشدون الناس الى وجهاتهم، قالوا أكثر من مرة بأن الحريق الذي حدث هو السبب في تأخر القطارات وتغيير مواعيد الكثير من الرحلات، لكن لا أحد من المسافرين متأكد من مكان وسبب حدوث الحريق، والشيء الوحيد الأكيد هو أن القطارات قد تغيرتْ أوقات رحلاتها، وأن رحلتي الى النمسا عبر المانيا قد تغيرت مسيرتها تماماً. وفي النهاية نصحني أحد موظفي محطة هانوفر، بركوب القطار الذاهب الى ميونخ، وهناك ستكون الأمور سهلة. بعد ساعات طويلة في القطار الذاهب الى الجنوب، وصلتُ قبل منتصف الليل الى محطة ميونخ، على أمل إكمال الرحلة الى فيينا في القطار الليلي، لكن مقاعد هذا القطار الذي ينطلق مرة واحدة كل ليلة كانت محجوزة بالكامل. وهنا تحَتَّمَ عليَّ الإنتظار في ميونخ، وقد عرضَ عليَّ مكتب الخدمات الخاص بالمحطة، الذهاب الى أي فندق في المدينة للمبيت حتى الصباح وهم سيتكفلون بثمن الفندق، أو أختار النوم في المحطة في أحد القطارات المخصصة لذلك، وفي الحالتين يمكنني في الصباح إكمال رحلتي الى فيينا بإستخدام بطاقتي ذاتها، فإخترت النوم في القطار طبعاً لأنه قريب وسيوفر عليَّ البحث عن فندق. سحبتُ حقيبتي بعد أخبرتني الموظفة بأن القطار الأصفر على رصيف رقم تسعة هو المخصص للنوم. مضيتُ نحو القطار الذي بدا من بعيد وسط الأضواء الخافتة كأنه تنين طويل. وعند إقترابي من هذا القطار رأيتُ امرأتين واحدة بدينة جداً والأخرى نحيفة، تجلسان على مصطبة وتدخان السجائر، ومن خلال شكل ملابسهما عرفتُ بأنهما تعملان هنا. دنوتُ من المرأتين وسألتهما إن كان هذا هو قطار المبيت، فنظرتا الى حقيبتي وقالت لي المرأة النحيفة (نعم هذا صحيح، ويمكنك أن تختار أية كابينة لتنام حتى الصباح) وأكملت المرأة الأخرى بعد أن نفثت دخان سيجارتها وهي تُحرك يديها مازحة (لكن عليك أن تصحو مبكراً لأن هذا القطار سيعاود رحلاته في الصباح)، وما أن سحبتُ حقيبتي خلفي حتى تناهى لي صوت المرأة النحيفة (سأجلب لك بعد قليل مخدة وغطاء من المخزن). وهكذا إخترتُ إحدى الكابينات مكاناً لمبيتي. ووضعتُ حقيبتي هناك، قبل أن أخرج لشراء شطيرة وقدح قهوة من كشك قريب وأجلس على المصطبة الحديدية المقابلة لغرفة نومي الجديدة، متابعاً أضوية الاعلانات التي تومض في أماكن متباعدة وتنعكس على مكاني الخافت. مرَّ الوقت ببطء شديد بسبب الإنتظار، فقررتُ النوم لتوفير بعض الطاقة ليوم غد، أغلقتُ باب الكابينة ووضعتُ فوق المقبض قدح القهوة الفارغ، والذي سيسقط ويجعلني أستيقظ في حالة قيام أحدهم بفتح الباب. لم يفتح أحداً الباب طبعاً، لكني فعلت ذلك من باب الاحتياط كما أفعل عادة في الفنادق. ولم يمرَّ الكثير من الوقت حتى صحوتُ أثر بعض الجلبة، حيث تحول القطار إلى فندق طويل بعد أن بدء المسافرين الذين فاتتهم القطارات بالقدوم مع ضوضاء سحب حقائبهم، وفي النهاية تحوَّلَ القطار الأصفر الى حوت يبتلع الناس المتأخرين عن رحلاتهم. ناس من مختلف دول العالم ومدنه المتباعدة، ملؤوا القطار بحركتهم المستمرة وأحاديثهم المتشعبة. هذا يأكل وذاك يتنقل هنا وهناك وأولئك يحاولون العثور على الكابينة التي تناسبهم. ياللقطار الذي صارَ نزلاً. تصفحت النت قليلاً، وحين أوشكتُ على النوم سمعتُ صوتاً نسائياً في السماعة الداخلية للقطار يقول بأن من يحتاج الى قهوة أو شطائر فهي مجهزة مجاناً، وهكذا ذهبت إلى عربة المطعم التي تقع وسط القطار حيث كانت المرأة البدينة منشغلة برصف لفافات الطعام على طاولة طويلة، فيما إنشغلتْ زميلتها النحيفة بتهيئة أقداح القهوة على طاولة بمحاذاة باب الكابينة. أخذتُ قدح قهوة مع شطيرتين حفظتهما لفطور الغد بعد أن إكتفيتُ بالقهوة مع قطعة بسكويت كانت متبقية في حقيبتي. في الصباح المبكر صحوتُ أثر الضوضاء التي ملأت القطار، نظرتُ من النافذة نحو المحطة التي بدت مختلفة مع ضوء النهار، ثم نهضتُ قبلَ أن أطوي الغطاء والمخدة وأعيدهما الى الكيس البلاسيكي، وخرجتُ مع حقيبتي نحو الرصيف رقم أربعة، حيث أخذني القطار نحو مدينة فيينا. بعد أربعة ساعات ونصف وصلتُ الى هناك، حيث توقفتُ وسط المحطة المزدحمة وأنا أفكر بأن السفر هو فعلاً من أهم تجارب الانسان. ثم خرجتُ نحو هذه المدينة المشرقة التي فتحتْ لي ذراعيها مرحبة. ومع أولى خطواتي أخذ تعب الرحلة يتوارى ويذهب خلفي مصاحباً لصوت عجلات حقيبتي التي بدتْ كأنها تُغني وهي تتهادى ورائي.