د. حيدر ابراهيم علي
(2-2)
تبدو هذه الشخصية أقرب الي المعجزة أو الملائكة، فهل يوجد ابن آدم واقعي بهذه الخصال؟وقد يدرج هذا الحديث ضمن:اذكروا محاسن موتاكم مع قدر من المبالغة أو أن يوم شكر(التيجاني)قد جاء، فيحق لنا أن نسرح ونمرح في المناحات والمدح بلا كابح أو رادع. لاتوجد أي مبالغة، وكل الذي يقال من صفات هي دون ذلك الرجل. ورغم أنني لم أكن صديقا شخصيا لصيقا له، ولكن هذا لا يمنع أن تدرك القيمة-الرمز التي تجبرك علي الاحترام والانصاف مهما كانت المسافة الفاصلة. وقد تكون في هذه الحالة اكثر موضوعية. فقد كانت تساؤلات تقلقني، مثل:كيف ظهرت مثل هذه الشخصيات في بلد مثل السودان يرزح تحت جبال من التخلف؟كيف كانت تنشئته وتكوينه؟من أين اكتسب هذه القدرة الاسطورية علي الصمود لرفع صخرة سيزيف التي تسمي السودان، وكلما ارتقي بها هو واصحابه درجات، جاء بكباشي أو عميد مهووس واسقطها في القاع مجددا؟وكيف لا تراوده ورفاقه وهم في شالا أو سواكن، لفحة يأس زغلولية:ما فيش فائدة؟
يمثل (التيجاني)جزءا من ظاهرة عامة هي:الشيوعيون السودانيون، وفي داخل الظاهرة حالة شديدة الخصوصية هي شخصه وشخصيته انتجتها شروط أن تكون شيوعيا عام1948 وفي السودان. شذوذ المكان والزمان ، هول التحدى وعظمة الاستجابة. كانت الجرأة الأقرب الي الجنون أن تخرج طليعة من الشباب تدعو للشيوعية، في بلد يرزح تحت الطائفية، وشبه الاقطاع، وذيول الرق، والفقر والمجاعات، والسخرة ونظام الشيل؛هذا علي المستوي السياسي والاقتصادي. أما اجتماعيا وثقافيا، مازال سائدا الختان الفرعوني، والشلوخ، ودق الشلوفة، والبطان. وتلبس النساء الرحط والقرقاب والكنفوس؛ويأكل الناس ملاح ام تكشو والجراد والفئران. ويتحدثون في مثل هذه المعطيات من الفقر والجهل والمرض أو الثالوث الذي يردده المثقفون؛عن الصراع الطبقي، وديكتاتورية البروليتاريا، والمرتد كاوتسكي، والمنشقة روزا لوكسمبورج. وهذا موقف شديد الالتباس، يراه البعض غير ماركسي لأنه غير عاكس للواقع. وهذا نقد غير دقيق، لأن الماركسية لا تقف عند تفسير العالم بل تغييره. بالتأكيد لا يحدث التغيير بالارادوية أي نتيجة ارادتنا الذاتية، ولكن هل من الممكن تسريع الثورة؟البعض يري أن الازمة الثورية في روسيا في اكتوبر عام1917، ناضجة تماما ولكن قدرات لينين والبلاشفة، كانت حاسمة. لم يقوموا ب " دفر " التاريخ الي الأمام، ولكنهم عظموا من دور الفكر والتنظيم في الثورة. هذا رأي ينفي عن الرواد الشيوعيين الاوائل الدونكيشوتية والتسرع، خاصة وأنهم لم يكونوا ينوون اقامة دولة شيوعية في هذا البلد المتخلف بل هم في حقيقة أمرهم ورغم تحرر وطني وتحديث. ولكن الطائفية والاخوان المسلمين ومعهم البريطانيون، في مرحلة تفاقم الحرب الباردة، تحالفوا في عملية خلق العدو:الخطر الشيوعي. وحولت القوى الرجعية والاستعمارية المعركة السياسية –الثقافية الي اخري دينية-عقدية لارهاب وعزل القوى الجديدة الصاعدة. وضمن هذا العداء والحصار تربي(التيجاني) ورفاقه وتم تعميدهم بالنار. ففي وسط هذا الجحيم كانوا يناضلون في قلب معركة الحداثة. تصور في مثل هذا المجتمع ركد طويلا وكأنه لم يغادر عام 1504حين اتفق عمارة دونقس مع عبدالله جماع. لقد اجترحوا مغامرة تأسيس المنظمات الحديثة:اتحاد نقابات السودان، الاتحاد النسائي، اتحاد الشباب، اتحادات المزارعين في الجزيرة وجبال النوبة نعم جبال النوبة. ومازلت حين أقرأ كتاب كامل محجوب:تلك الأيام، عن تأسيس اتحاد المزارعين في الجزيرة، شعرة جلدي ت######. خاصة حين يحكي قصة القميص الواحد الذي يغسله بالليل ليلبسه الصباح. وهو الذي كان يمكن أن يكون افنديا ببدلة وبرنيطة. هذه هي تضحيات السلف الصالح والكادح، وقد كان التيجاني في قلب المدرسة أو المصهر للأسف، السودانيون دائما يبخسون اشياءهم.
تصاعدت حملة الرجعية الصليبية، وكانت تنوي التبكير بمسرحية شوقي محمد علي في معهد المعلمين العالي عام1965. ففي3/10/1954، نشرت صحيفة "الايام " الخبر التالي: " أن منشورات قد وزعت في العاصمة وأرسلت لبعض الناس بالبريد تهاجم الدين الإسلامي وتنادي بحياة الشيوعية ". ونتيجة لذلك نظمت حملة في بعض المساجد، وطالب بعض الخطباء بهدر دم الشيوعيين. ولكن في ذلك الوقت بعض الحكماء في البلاد، قبل أن تغزو الانتهازية البلاد والاخلاق. فاسرع السيد عبدالرحمن المهدي بدرء الفتنة. وبعد أكثر من عشرين عاما تآمر اسماعيل الازهري، والصادق المهدي، وحسن الترابي، علي الديمقراطية وليس علي الحزب الشيوعي. فقد قاموا بطرد نواب انتخبهم مثلما انتخب من طردوهم. هنا كان اغتيال الديمقراطية الثاني، بعد التسليم والتسلم في 17 نوفمبر1958. وكانت سانحة لكي يرد عبدالخالق محجوب أصالة عن نفسه، ونيابة عن التيجاني الطيب وكل السلف المناضل. وكتب مقالا عنوانه:كيف أصبحت شيوعيا؟يقول فيه أنه بعد الحرب العالمية ومع صعود الوعى الوطني، انتطم مثل غيره من الطلبة المتحمسين في هذه الحركة علي أمل المساهمة في تخليص وطنه من النير الاستعماري.
ويضيف: "تحدوني حالة الفقر والبؤس التي كان ومازال يحس بها جميع المواطنين االمتطلعين الي مستقبل مشرق ملئ بالعزة والكرامة ". وتعلقت آمالهم علي زعماء الاحزاب ولكن هذه الآمال تضاءلت، مما اجبر الشباب علي البحث عن بديل لأن الزعماء-حسب رأيه-لا يحملون بين ضلوعهم نظرية سياسية لمحاربة الاستعمار. وهداه تفكيره الي النظرية الماركسية التي نشأت خلال تطور العلم. وعرج الي موقفهم من الدين قائلا:- "لم اتخذ الثقافة الماركسية لأنني كنت باحثا في الاديان، ولكن لأنني كنت ومازلت أتمني لبلادي التحرر من النفوذ الاجنبي(. . . )اتمني واسعي لإسعاد مواطني حتي تصبح الحياة في السودان جديرة بأن تحيا-ولأنني اسعي لثقافة نقية غير مضطربة تمتع العقل وتقدم البشرية إلي الأمام في مدارج الحضارة والمدنية. "ولهذه الغايات النبيلة وهب عبدالخالق والتيجاني ورفاقهم الآخرون، كل بطريقته، حيواتهم راضين. ليس في فكرهم صراع مع الدين والإيمان، بل ببساطة:جعل الحياة في السودان جديرة بأن تحيا!هذا هو المطلب والأمل حتي اليوم.