TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > واشنطن ودعم الانقلابات القاتلة: ايران 1953

واشنطن ودعم الانقلابات القاتلة: ايران 1953

نشر في: 10 أكتوبر, 2024: 12:03 ص

د. حسين الهنداوي

(1)
خلال فترة ما يعرف بالحرب الباردة (1945-1990) لحماية وتعزيز مغانمهما الكبرى في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وبينما ركز الاتحاد السوفيتي على دعم الاحزاب الشيوعية الموالية له حول العالم ، ركزت الولايات المتحدة الامريكية على شن حرب لا ترحم ضد تلك الأحزاب أينما وجدت لا سيما المهمة منها وخاصة في العالم الثالث. وهكذا ومنذ بدئها انتقلت تلك الحرب لتصبح حروبا عالمثالثية "بالنيابة" اذا جاز القول بدءا بالحرب الكورية (1950-1953)، والازمة الكوبية في 1962، والحرب الفيتنامية (1956-1973)، والغزو السوفييتي لأفغانستان (1979-1989)، فيما دعمت الولايات المتحدة ومعها حليفتها المثلى بريطانيا، سلسلة الانقلابات العسكرية الدموية التي اسفرت عن صعود طغم فاشية الى السلطة في دول مهمة إقليميا كانت الى الاتحاد السوفييتي اميل ومنها ايران في 1953، والعراق في 1963، واندونيسيا في 1965، وتشيلي في 1973، وعبر خطط وآليات ولأهداف متماثلة يمكن تأمل او تفحص سماتها الأساسية وكذلك آلياتها عبر ما بات يعرف بـ "طريقة جاكرتا"(The Jakarta Method) ، التي اعتمدتها وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية الـ (CIA) لمواجهة انتشار الأفكار والحركات اليسارية التي ظهرت وتطورت سريعا واغريت بالسلطة في اكثر من مكان من العالم الثالث. ولا ريب، فان تلك الانقلابات العسكرية الدموية ومثلها الكثير مثلت نماذج ساطعة على ذلك السيناريو حيث استخدم الانقلابون المدعومون علنا من المخابرات الامريكية والبريطانية، حملات اغتيال واعتقال واسعة وأساليب تنكيل قاسية بل وحشية أحيانا راح ضحيتها آلاف المدنيين الأبرياء نساء ورجالا، وبينهم اعداد كبيرة من الموظفين والمثقفين والعمال والطلبة وحتى الأطفال والشيوخ.
انقلاب 1953 في إيران
ففي ايران، وبعدما كانت الولايات المتحدة تنفي أي دور لها في الإنقلاب العسكري الدموي الذي أطاح بحكومة الزعيم الوطني الإيراني الدكتور محمد مصدق يوم19 آب 1953، قامت واشنطن في نفس الشهر من عام 2013، أي بعد ستين عاما، بنشر معظم الوثائق الامريكية الحكومية التي كانت سرية في السابق والتي أظهرت ان الـ (CIA) كانت مسؤولة مباشرة عن التخطيط للانقلاب المذكور وتنفيذه، بما في ذلك رشوة بعض الساسة والمسؤولين الإيرانيين بمن فيهم عدد من كبار القادة العسكريين والأمنيين، وتمويل عصابات مأجورة لإثارة الرعب والشغب مؤكدة بأن خطة الانقلاب "صُممت بعد ان جرت الموافقة عليها على أعلى مستويات الحكومة بوصفه فعلًا صادرًا عن السياسة الخارجية الأمريكية". والولايات المتحدة تعترف رسميا منذ 20 أغسطس/ آب 2013، بدورها في انقلاب إيران عام 1953. وهذا الاعتراف يدعم تصريحات لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت في عام 2000، وأخرى للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في مداخلة له في القاهرة عام 2009، اكدا فيه الدور الأمريكي في ذلك الانقلاب. وينقل عن دونالد ويلبر، أحد مخططي الانقلاب، قوله في وثيقة كتبت بعد أشهر من الإطاحة بمصدق: "كانت لدينا تقديرات بأن إيران كانت تواجه خطر السقوط الحقيقي خلف الستار الحديدي (الاتحاد السوفييتي)، وإذا ما وقع هذا، فإنه سيعني نصرا للسوفييت في الحرب الباردة، وانتكاسة كبرى للغرب في الشرق الأوسط."
والحال لم يكن لتلك التقديرات أي أساس من الصحة. فمصدق لم يفعل سوى المطالبة باطلاع حكومته المنتخبة ديمقراطيا على وثائق شركة النفط الأنجلو-إيرانية، (التابعة لشركة بريتيش بتروليوم البريطانية) بهدف تثبيت الحقوق الوطنية لبلاده في احتياطي النفط الإيراني الذي تحتكر الشركة البريطانية التحكم به. لكن الشركة رفضت التعاون مع الحكومة الإيرانية، ما دفع البرلمان الإيراني الى التصويت على تأميم قطاع النفط وطرد ممثلي الشركات الأجنبية من البلاد. فردت بريطانيا باتهام حكومة مصدق بتمكين الشيوعيين من الاستيلاء على السلطة في البلاد، وبالدعوة الى مقاطعة عالمية للنفط الإيراني، كما قامت بحشد قواتها العسكرية مهددة باحتلال مصفى عبادان النفطية التي بناها البريطانيون، وكانت الأكبر في العالم آنذاك. وامام اصرار حكومة مصدق على تأميم النفط الإيراني، اتفق رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل مع الرئيس الأمريكي أيزنهاور على الإطاحة بحكومة مصدق بانقلاب عسكري تم في عام 1953، بالاعتماد التام على الدعم الأمريكي المباشر في عملية اطلق عليها الامريكيون اسم "أجاكس" (Ajax)، والبريطانيون "التمهيد" (Boot) ونفذت باشراف مباشر من ضابط الاستخبارات الأميركي والقائد الفعلي للانقلاب كرميت روزفلت الذي تولى أيضا تنظيم حملات معادية لمصدق في وسائل الإعلام الإيرانية والدولية. ووفقًا لوثائق وكالة المخابرات المركزية وسجلاتها السرية، فانها وظفت بعضًا من أكثر رجال العصابات إثارة للرعب في طهران لتنظيم أعمال شغب موالية للشاه، وإطلاق الهتافات التي تحط من هيبة مصدق كما جلبت رجالًا مأجورين في حافلات وشاحنات إلى طهران حيث استولوا على شوارع المدينة بالتوازي مع اغتيال القيادات التاريخية للجبهة الوطنية التي شكلها مثل الدكتور حسين فاطمي الذي اغتيل في الشارع في وضح النهار. وقد قُتل نحو 300 شخص خلال الانقلاب. وهكذا وبفضل خطة روزفلت التي اعتمدت على تعميم مشاعر الرعب بين افراد الشعب الإيراني، وخلق انطباع جمعي أن طهران قد خرجت عن السيطرة وأن حكومة مصدق لم تعد قادرة على التحكم في الوضع، نجحت العصابات المأجورة من قبل المخابرات الأمريكية بالسيطرة على كل الميادين الرئيسية في طهران، كما احرقت المؤسسات الحكومية ومقرات الشرطة وحررت الضباط الانقلابيين المقبوض عليه في المحاولة الأولى للانقلاب. انضم إلى العصابات المواطنين الساخطين على مصدق، بالإضافة إلى الذين تم جمعهم ضده كنتيجة لحملات التحريض الأمريكية.
ورغم انها كانت المرة الأولى التي تعترف واشنطن رسميا فيها بضلوع اجهزتها في صنع الانقلاب، إلا أن ذلك كان معروفًا منذ عقود، حيث كل المعلومات اشارت إلى تورط الـ (CIA) الأميركية والـ (MI6) البريطانية في عملية الاطاحة بمصدق وبقرار مباشر من الرئيس الاْمريكي دوايت أيزنهاور المنتخب للتو آنذاك، وبذريعة حماية المصالح الامريكية في المنطقة. بعد ان كانت بريطانيا وحلفائها قد وظفت كل طاقاتها الدعائية لتحريض الرأي العام الغربي ضد مصدق باتهامه بالشيوعية والعمالة لموسكو والعمل على تسليم النفط الإيراني وكل نفط الشرق الأوسط الى الاتحاد السوفيتي بدلا من الغرب، الامر الذي شجع الولايات المتحدة على قبول استخدام العنف لتغيير نظام مصدق المنتخب ديموقراطيا بنظام فاشي تابع لها.
ومن المعلوم اليوم ان المخابرات الأمريكية والبريطانية وضعت لمساتها الأخيرة على خطة الانقلاب في اجتماع عقد في "فندق سان جورج" على الساحل الغربي للعاصمة اللبنانية بيروت، بحضور مدير الـ (سي أي أي) ألـن دالاس، وسفير الولايات المتحدة في طهران لوي هندرستون، وشقيقة شاه ايران الاميرة أشرف، والبريغادير نورمان شوارتزكويف الخبير الامريكي في تنظيم شؤون الاْمن العام الايراني في عهد رضا بهلوي ودير المخابرات البريطانية في طهران جوردان سومرست وضابط الاستخبارات الأميركي كيرمت روزفلت الذي كان يشرف على شبكة قوية من العملاء في ايران والمنطقة انشأتها الـ (سي أي اي).
والمفارقة ان بريطانيا التي جندت زاهدي كانت تتهمه خلال فترة الحرب العالمية الثانية، بالانتماء الى ميليشيا "القمصان السوداء" التابعة للحزب القومي الفاشي الإيراني (أزور) بل قامت بالتحقيق معه ونفيه الى فلسطين في 1941، بتهمة الاتصال بالنظام النازي الألماني.
وألقت محكمة الشاه العسكرية القبض على مصدق وحاكمته وأدانته بتهمة الخيانة. في 21 كانون الاول 1953، حُكم على مصدق بالسجن ثلاث سنوات، ثم وُضع قيد الإقامة الجبرية لبقية حياته. سُجن أنصار آخرون لمصدق، وتلقى العديد منهم عقوبة الإعدام. بعد الانقلاب، واصل الشاه حكمه كعاهل لمدة 26 سنة قادمة إلى أن أُطيح به في الثورة الإيرانية في عام 1979.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: عجائب وقفية !!

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

البريكس.. عيون عراقية

قناديل: بغدادُنا في القلب

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram