لطفية الدليمي
هو الزمن: المُطبّبُ الأعظم والمخادِعُ الأكبر في الحياة. هو اللغز الذي تتصاغر معه وبه كلّ الأحجيات الكبرى من المستوى دون الذري صعوداً حتى الأبعاد الكونية اللانهائية.
تخبرُنا العبارة الأيقونية اللاهوتية المتداولة أنّ"في البدء كانت الكلمة (اللوغوس)»؛ لكنّ الأوجب هو القول في البدء كان الزمن. كينونتنا الوجودية وعالمنا المادي يبدءان مع الزمن. الزمن يسبق المكان وهو متعالٍ عليه. أفعالنا كلها هي في النهاية -وبلغة الرياضيات- دوالٌ زمنية في المكان.
الزمن جوهر الفيزياء والحياة بعامة. لو تساءلنا: مَنْ أعظم الفيزيائيين في المائة سنة الماضية؟ أظنُّ أنّ معظمنا سيقول: آينشتاين. سيكتفي بهذا الجواب من غير تدقيق في دوافعه. جرّبْ أن تقرأ كتاب آينشتاين الذي عنوانه (النسبية: النظرية الخاصة والعامة)، ستكتشفُ عبارات بسيطة مصممة لمساءلة تجارب فكرية محدّدة على شاكلة: ما الذي يحصل إذا ما إمتطى أحدُنا شعاعاً من الضوء؟ يحارُ المرء في السبب وراء شهرة آينشتاين وتحوّله نجماً مجتمعياً مماثلاً لنجم هوليودي. كثيرون من الفيزيائيين يتفوقون عليه في كتاباتهم الفيزيائية وإستبصاراتهم الفلسفية. إنتهيتُ بعد سنوات عديدة إلى أنّ السبب يكمن في مفردة واحدة: الزمن. هو صانع النجوم حتى في الفيزياء. لأنّ آينشتاين تعامل مع الزمن وابتدع لنا مفهوم الزمكان فقد حجز لنفسه مقعد الريادة الفيزيائية. آينشتاين خيرُ مثالٍ لفيزيائي إستمدّ ريادته من أولوية الزمن وتقدّمه على كلّ المفاهيم الأخرى، ولولا الزمن لما كان آينشتاين أكثر من عجوز أقرب إلى أحد أنبياء العهد القديم كما وصفه زميلٌ له في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون حيث قضى العقديْن الأخيرين من عمره.
هذا عن الزمن الفيزيائي. لكنّ ما هو أكثر أهمية منه هو الزمن النفسي والذهني الذي هو بناء فرداني خالص حتى ليجوز لنا القولُ: كلٌّ منّا له زمنه الشخصي المطبوع بخواصه الذاتية. هذه الخصيصة الذاتية للزمن ليست نقيضاً لبعض خواصه الجمعية التي نتشاركها كبشر، ومن أهمها خصيصتان: المداواة والمخادعة.
الزمن هو المطبّبُ الأكبر لجروحنا النفسية والرضّات Trauma الذهنية التي يمكن أن تتسبّب لنا بأعطاب إنتكاسية خطيرة. كثيراً ما مرّ علينا في بواكير حياتنا ظروفٌ بعينها مادت فيها الأرض تحت أقدامنا حتى حسبنا حياتنا لم تعُدْ تحتملُ العيش، ثمّ بعد زمنٍ ما تتكشّفُ لنا حقيقة الأمر: ما حسبناه ثقلاً غير محتمل لم يكن أكثر من عثرة عادية في الحياة. الخبرة هي أحد فواعل الزمن ونتاجُ العيش في الحياة. يعلّمُّنا الزمنُ أن نهدأ ونسترخي وننظر أحياناً وراءنا لكي نسخر من أوهامنا السابقة. الزمن هو ما يصلّبُ عودَنا ويجعلنا نحتملُ الحياة القاسية بصبر وثقة وشجاعة. هل جرّبتَ يوماً النظر في حياتك قبل ثلاثين أو أربعين سنة؟ هل توقّفتَ عند واقعة حسبتَها خانقاً مفضياً إلى تهلكة مؤكّدة ثمّ تجاوزتها ومضيت في حياتك؟ الغريب أنّك قد تتمنى -بكيفية نوستالجية طاغية- أن يعود بك الزمن لتلك الواقعة. حينها كنتَ ستجعلُ المهلكة المفترضة تجربة جميلة. هذه بعضُ فواعل الزمن والخبرات المتصلة به، وما أكثرها لو أردنا عدّها!! .
ليس الزمن عسلاً مشتهى دوماً. هو المخادعُ الأكبر في الحياة أيضاً. لا عنصرَ في هذه الحياة يستمرئ فعل الخديعة أكثر من الزمن. كلّنا ضحايا هذه الخديعة التي يفعلها الزمن على مرأى ومسمع منّا ولا يحتاجُ التوسّل لصناعتها في الكواليس المغلقة. جوهر الخديعة في الزمن أنّه يبدو لنا كساعة رملية تعمل في إتجاه واحد ولا قدرة لنا على عكس الإتجاه عندما ينفد الرمل. ليس بمستطاعنا الإمساكُ بالزمن وتثبيتُهُ أو مراوغته. هو سائرٌ في طريقه لا يلتفت لشيء. هل تنفع توسلاتنا إليه بأن يترجّل من قطار الأبدية؟ لن يفعل. إنّه جزء عضوي في المشهد المأساوي للحياة.
لن تستطيع الإمساك بالزمن ولجْمِهِ وترويضه كما تشاء. ربما في أقصى الحالات يستطيع أحدنا عيش حياة ممتلئة يسمّيها دعاةُ التنمية البشرية Mindfulness، وهي ملاعبة ذهنية يرادُ منها الإيحاء الذاتي بأنّ حياتك لم تذهب عبثاً.
سيحاول كثيرون منّا أن يقتربوا ما استطاعوا من الزمن؛ لكنهم في النهاية لن يستطيعوا تحقيق ما يزيد عن الإصغاء إليه كخرير جدول صغير بدلاً من تركه ينسابُ بلا صدى كمياه جوفية في باطن الارض السحيقة. هذا كلّ ما تستطيعه لأنّك تحيا حياة واحدة فحسب.
ليست مصارعة الزمن بطولة. تلك مباراة خاسرة لا محالة. البطولة أن تعيش حياتك (زمنك. لا فرق) وأن تصنع منها شيئاً فارقاً ينبئ بأنّك لم تكن هباءة عابرة من غير ذاكرة في هذا الكون.