TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > جلسة على أطلال مملكة زهرة البابونج….بابل من نافذتي

جلسة على أطلال مملكة زهرة البابونج….بابل من نافذتي

نشر في: 14 أكتوبر, 2024: 12:01 ص

د.فاطمة الثابت

في سجلات التاريخ وتطور الحضارة غالبًا ما نجد صورًا للعلاقة الوثيقة بين الانسان والبيئة، لطالما كانت الطبيعة رفيقتنا الأقدم والأكثر ولاءً، حيث شكلت الحضارات التي ازدهرت عبر العصور ومع ذلك، مع تقدم التقدم المادي، بدأ هذا الارتباط الوثيق في التآكل، مما أدى إلى اغتراب البشرية تدريجيًا عن العالم الطبيعي.
من الأهمية بمكان إعادة النظر في أصول هذه الرابطة، واستكشاف العناصر الأساسية التي بنيت عليها الحضارات القديمة. من خلال فهم التغييرات التي حدثت بمرور الوقت، يمكننا توقع مستقبل المجتمع البشري والبيئة بشكل أفضل.
تبدأ رحلتي في بابل - مهد الحضارة حيث المكان الذي أعيش وسط بقايا الماضي العريق واضطرابات الحاضر، غالبًا ما أفكر في التكامل المتناغم بين الحضارات القديمة والطبيعة، وأقارنه بالانفصال العقيم للحاضر. إن هذه التأملات اليومية تثير لدي أسئلة مهمة: كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف فقدت البشرية علاقتها الحيوية بالبيئة؟ ما هي عواقب هذا الانفصال على المناخ، وما هو المستقبل الذي تنذر به هذه العواقب؟
تبدأ الرحلة لاكتشاف هذه الإجابات بزهرة البابونج، وهي رمز مهم للحضارة البابلية. إلى جانب أسطورة الجنائن المعلقة، رمز الحب والسلام، مع اقتراب فصل الشتاء، من المفترض أن تزدهر أزهار البابونج - ولكن في بابل، حيث ازدهرت هذه الزهرة ذات يوم، تقترب الآن من الانقراض. وبدلاً من أزهارها العطرة، تنبعث من نافذتي رائحة كريهة داكنة وكبريتية تذكرنا بالبيض الفاسد. ووفقًا للتقارير المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هذه الرائحة الكريهة تنبع من حرق النفايات. وقد نشر الناشط البيئي صادق عطية مؤخرا منشورا على الفيسبوك: “تظهر الخريطة تركيز ثاني أوكسيد الكبريت في الغلاف الجوي من مستوى الأرض إلى ارتفاعات أعلى، حيث وصل إلى مستويات خطيرة في بغداد وبعض المدن في الفرات الأوسط».
وأوضح عطية أن سبب الرائحة الكبريتية هو وجود مصانع الطوب، جنوب وشرق بغداد، التي تستخدم تقنيات قديمة ضارة بالبيئة. وتساهم هذه المصانع، إلى جانب الانبعاثات من مصفاة الدورة جنوب العاصمة، في التدهور البيئي الذي يخنق الأرض.
ومن عجيب المفارقات أن هذه الأزمة البيئية تتزامن مع إطلاق استراتيجية الاستثمار المناخي الوطنية العراقية الممتدة لخمس سنوات (2024-2030). لكن سحابة الكبريت تلقي بظلالها على مستقبل البلاد، وتكشف عن التعقيد الهائل لتحديات المناخ. وبينما نتأمل التدهور البيئي، يجدر بنا أن نتذكر مملكة زهرة البابونج، التي لعبت ذات يوم دورا بارزا في الحضارة البابلية.
كان للبابونج، المعروف في اللغة السومرية باسم (gis)LAG-GAN/A-SAGA وفي اللغة الأكادية باسم kirban kurban egli («هدية الحقل”)، أهمية عميقة في حياة بابل وتذكر الألواح المسمارية التي تم اكتشافها في مكتبة آشور بانيبال البابونج بين 250 نباتًا طبيًا. كانت هذه الزهرة الرقيقة، التي تنمو في الحقول والمروج، تأتي بثلاثة أصناف: الأصفر والأبيض والأحمر. وكان الصنف الأبيض ذو الأزهار الصفراء، المعروف برائحته اللطيفة، يعتبر الأفضل.
تم استخدام البابونج لقرون لعلاج أمراض مختلفة، ولا تزال قيمته الطبية معترف بها حتى اليوم. ينتمي إلى عائلة Compositae والمعروف علميًا باسم Chamomilla matricaria، وينمو إلى ارتفاع يتراوح بين 15 و50 سم وينتج صبغة صفراء، مما يزيد من أهميته المتعددة الأوجه ، في الثقافة البابلية، كانت زهرة البابونج ذات قيمة تتجاوز استخدامها الطبي. لقد امتدت أهميته إلى عدة مجالات:
كان البابونج يستخدم لتسكين أمراض الجهاز الهضمي وكان يصنف على أساس تأثيره على جسم الإنسان اضافة الى الأهمية الدينية والثقافية كان البابونج يظهر في الطقوس البابلية ويرمز إلى السلام والشفاء وازدهر في التربة الخصبة في بلاد ما بين النهرين، مما أثرى التنوع الزراعي في المنطقة ناهيك عن القيمة الجمالية والرمزية مما جعل الجمال الرقيق لزهرة البابونج منها رمزًا للنقاء والانسجام الطبيعي.
وعندما أتأمل هذه الروابط القديمة مع الطبيعة، فمن الصعب ألا أبكي على الحاضر. لقد كان للتدهور البيئي والتطرف المناخي والانحدار السياسي والثقافي والاقتصادي تأثيرها على العراق. حتى زهرة البابونج، التي كانت وفيرة ذات يوم، لم تعد الآن سوى آثار تزين بوابة عشتار المزيفة .
ومع ذلك، تظل سحابة الكبريت التي تحوم فوق بغداد والفرات الأوسط بمثابة تذكير قاتم بالتحديات البيئية التي لا تزال قائمة وحتى الآن، لا نفهم تمامًا الأسباب الحقيقية وراء هذه السحابة الكبريتية، ولا نعرف العواقب المستقبلية التي قد تجلبها. ويعكس لغز أصلها حالة عدم اليقين بشأن أزمة المناخ نفسها، مما يحثنا على التحرك قبل فوات الأوان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأعرجي: نثمن موقف الشرع لتصحيح الأخطاء بانطلاقة قوية لبناء سوريا

اليوم.. انطلاق جولة جديدة من دوري نجوم العراق

إسرائيل تهدد لبنان: لن نسمح بالعودة الى واقع 7 اكتوبر

بعد العيد.. اتحاد الكرة: سنحسم ملف مدرب المنتخب الوطني

حزب الله ينفي صلته بقصف شمال فلسطين

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سافرات العبادي

العمود الثامن: غزوة علي الطالقاني

قناطر: البصرة في جذع النخلة.. الطالقاني على الكورنيش

كيف يحرر التفكير النقدي عقولنا من قيود الجهل والتبعية؟

العمود الثامن: العدالة على الطريقة العراقية

العمود الثامن: السعادة على توقيت الإمارات

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجزعن مواجهة واقع يسير بنا إلى...
علي حسين

كلاكيت: عن (السينمائي) وعبد العليم البناء

 علاء المفرجي علاقتي مع (السينمائي) لها حكاية، تبدأ من اختياري لها لكتابة عمودي (كلاكيت) منذ عددها الأول، ولا تنتهي بعددها الأخير. ولئن (السينمائي) تحتفل بعشريتها الأولى، كان لزاما عليّ أن أحتفل معها بهذا...
علاء المفرجي

تركيا تواجه التحول الجيوسياسي الناجم عن عودة دونالد ترامب إلى السلطة

جان ماركو ترجمة: عدوية الهلالي في الأسابيع الأخيرة، ومع ظهور الديناميكيات الجديدة للجغرافيا السياسية لترامب، تركز الاهتمام إلى حد كبير على اللاعبين الرئيسيين في الساحة الدولية، بدلاً من التركيز على دول الطرف الثالث التي...
جان ماركو

منطق القوة وقوة المنطق.. أين يتجه صراع طهران وواشنطن؟

محمد علي الحيدري يبدو أن ملف التفاوض بين إيران والولايات المتحدة دخل مرحلة جديدة من التعقيد، ليس بسبب طبيعة الخلافات القديمة، بل نتيجة تبدّل ميزان القوى الإقليمي والدولي، الذي بات يفرض مقاربة مختلفة عن...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram