TOP

جريدة المدى > عام > قطار بصرة - لندن تجليات التشظي والبحث عن الذات

قطار بصرة - لندن تجليات التشظي والبحث عن الذات

نشر في: 14 أكتوبر, 2024: 12:03 ص

عباس لطيف
المنفى وصراع الذاكرة
منذ الومضة الأولى يزجنا عرض قطار بصرة - لندن في عالم مأزوم وملتبس يجسد واقعاً يحكمه التشظي والضياع والاغتراب ومحو الذات.
ويرتكز العرض على صراع سايكولوجي ووجودي بين شخصيتين مأزومتين هما شخصية نجاة الفتاة الجميلة والتواقة للحياة التي تسحقها الحرب في مدينة البصرة أدتها الممثلة رضاب احمد في وتفقد اباها واخوتها التسعة في الحرب العبثية وتفقد ذاتها ووجودها وانوثتها.
وشخصية الرجل فاقد الذاكرة مثله الفنان محمد هاشم جراء الحرب والتشظي، وفي عالم من الفقدان الكلي يدور الحوار والصراع بينهما، كل يبحث عن الآخر وعن ذاته، فكان بوحاً احتجاجياً.
وتبدأ الاحداث في المنفى وتداعيات ومآسي الهجرة الى لندن فنجاة تهيمن عليها النوستالجيا والحنين الى الوطن وتحديداً الى مدينتها البصرة والرجل يهيمن عليه البحث عن ذاته وذاكرته ووجوده الذي مسخته الحرب. ويوظف انساقه وعلاماته لتعميق هذا التأزم التراجيدي الذي تتشظى فيه العوالم والشخصيات والأزمنة والأمكنة وتتجسد حالة الخراب الكلي رغم محاولة الشخصيات التشبث بالبقاء.
وتختلف الشخصيات في طبيعة هذا التشبث فنجاة تبحث عن أخيها وذاتها الضائعة وأنوثتها المفقودة بعد ان تموت الأم حزناً على موت الاب في الحرب.
والرجل فاقد الذاكرة يبحث عن ذاته وذاكرته ولا يفكر بالعودة إلى الجحيم الذي سبب له كل هذا التشوه والانسلاخ.
ولذا زج العرض بالشخصيتين في فراغ مدوٍ كدلالة سيميائية على هذا الفراغ واللامكان فيه الذي يسكن أعماقهما.
وظهر المشهد خاليا ومفتوحاً وموحشاً ليس فيه غير علامات واحالات خارجية مثل صوت القطار، وحركة المطار وصوت الغارة ومقاطع من الموسيقى التي تعكس الشجن والذكريات وقد اجاد العزف الحي للفنان علي خصاف وزاد من جمالية الأداء. و ابعاده السايكولوجية والانسانية وكنا نتمنى الاقتصار على العزف الحي، فالمكان يتسم بالدستوبيا وكأننا في عالم آخر ليس فيه غير التداعيات والاعترافات ومشاعر الاحتجاج ووظفت اللوحة الخلفية في السايك حالة التشظي وهي تشكل تناصاً تشكيلياً مع لوحة الجورنيكا لبابلو بيكاسو التي تصور بشاعة وقبح الدمار الذي احدثته الحرب في اسبانيا.
لكن هذه العلامة الخلفية الميمنة ظلت علامة أيقونية ساكنة لم تفعل حركياً مع حركة العرض رغم محمولها السيميائي المؤثر فهي توحي بالتشظي والتقاطع بين الشخصيات.
ايقاع الشخصيات المنشطرة
في عالم يحكمه التشظي الانمساخ وهي توحي بدلالات تأويلية متعددة، فقد توحي بأنها قطع من الخشب في سكك القطارات، أو توحي بنعوش الجنود أو توحي بشخصيات ضائعة وبذلك حققت هذه العلامة بعدها السيميائي والتأويلي وظلت مرجعية خلفية للأحداث رغم سكونها وعزلتها عن العرض.
ووسط هذا الفراغ ودلالاته استطاع العرض أن يكسر ماهيته بوجود ازياء الشخصيات حتى تتحول الالوان الثلاثة الى كونتراست يعبر عن التناقض الذي يحكم الشخصيات والعرض بأكمله.
فنجاة ترتدي الثوب الأحمر المعبر عن دموية وبشاعة الحرب بوصفها أحدى ضحاياها. والرجل يرتدي بدلة تشبه بدلات السجناء وهي ترمز الى كونه سجين داخل ذاته ولا يستطيع التحرر من ضياعه، و الشخصية المنشطرة عن شخصية نجاة والتي ترتدي فستاناً أبيض أدت هذه الشخصية الفنانة فاطمة فراس وهي ترمز الى الذات القابعة والنقية التي تجسد أعماق البراءة لشخصية نجاة، وهذا الانشطار يؤشر ملمحاً من ملامح التجريب، والتعبير الظاهري عن الاختلال الباطني والتناقض بين الخارج والداخل.
وتهيمن موضوعة الحرب وبشاعتها والهجرة ومعاناتها على مجمل العرض الذي يستعرض عالماً قلقاً متبعثراً ومضطرباً مما أدخل الشخصيات في هذا الاضطراب، إذ تبدو الشخصيات عالقة في عالم عدمي.
فسينوغرافيا الفراغ تعبر عن هذا الفراغ الوجودي والسايكولوجي والاجتماعي فالشخصيتان تعانيان الوحدة والاضطراب والضياع ولا يبدو أي أمل للتناغم بينهما، لأن الحرب لم تبق لهما أي أمل في الحياة.
فظلتا شخصيتين تسيران في خط التوازي حتى نهاية العرض وهي دلالة رمزية للحرب التي اكلت كل شيء واحالت كل شيء الى خراب، حتى بدت الشخصيات وكأنهما في عالم الموتى.
ومن جماليات العرض انه جسد لنا الحرب وهي تدمر الحياة والانسان ولم يصورها أو يجسدها في ساحات القتال والسواتر، فالحرب تدور في البيوت وداخل الانسان وليس في الجبهات.
أسلوب التعرية الحادة
وتكمن جمالية المتن الحكائي للعرض انه لم يرتكز على البناء الخطي والتراتبي فقد كسر البناء التراتبي الخطي حيث بدأ العرض من النهاية وارتكز على دائرية الحدث وما بين البداية والنهاية اشتغل على تقنية الاستدعاء والاستحضار بطريقة المونتاج وهذا التقطيع علامة سيميائية تدل على التشظي والخراب والتبعثر وعدم وجود المنطق والمعنى لما يحدث.
وتماهيا مع هذا الاشتغال ظهرت مقصدية اخفاء شخصية الرجل فاقد الذاكرة لنكتشف من خلال الاحداث والصراع بانه سيمون عيسى صليوه الجندي الذي كان صديقاً لشقيق نجاة، والذي عشق نجاة لكن هذا العشق لا يمكن أن يكون له معنى في زمن الحرب والتشظي والإنمساخ ونلاحظ رمزية اسم نجاة كونها المنقذ له في وجوده وفي استعادته لذاكرته المفقودة والممسوخة.
لقد هيمنت موضوعة التشظي وضياع الذات على طبيعة العرض واصبحت الفكرة المركزية التي يرتكز عليها بصورة كلية، وفكرة عدم الكشف عن شخص سيمون وهيمنة الوهم والحقيقة وعدم الرسوخ بينهما قد شكل نوعاً أو طاقة من التشويق وتعميق روح المفارقة الدالة . ومن دلالات العرض انه أدان الحرب بأسلوب التعرية الحادة كما أدان الاستبداد الانفرادي والدكتاتوري وأدان الاحتلال، وصور لنا الانسان وقد تحول إلى ضحية وقربان في عالم قلق و مضطرب وعدمي وممسوخ.
حضور الأداء المشترك
لقد أبدع المؤلف والمخرج مناضل داوود في تقديم عرض متقدم في موضوعته وتجلياته واستثمار كل عناصر العرض المسرحي في تجسيد مضمونه الفكري.
وتخلص من اشكالية المؤلف – المخرج ولم يقع في الرؤية الاحادية، فالنص راسخ ومتماسك والاخراج متقدم في توظيفاته ودلالاته وان كان هناك حاجة لبعض الاختزال وتسريع الايقاع في لحظات بدت بطيئة وساكنة.
وأبدع محمد هاشم محمد وعبر عن احترافية عالية تماهت مع تلقائية رضاب احمد وفاطمة فراس مع أن الأداء كان متشابهاً بين الشخصيتين لأنهما يمثلان شخصية واحدة لها حضورها الداخلي والخارجي وايقاعهما المشترك.
هذا العرض يمثل اضافة متقدمة لعروض الحرب و تجسيد قبحها وجنونها العبثي وتأثيرها على الانسان ومسخه و تشويهه. إذ قدم صورة من صور الإدانة والاحتجاج ولتفعيل ذاكرة المتلقي ازاء القبح الذي تنتجه الحروب والاحتلال والهيمنة والمصادرة.
وتجلت براعة العرض في الضبط الجمالي والفكري واستثمار كل عناصر العرض في تقديم موضوعة مركبة ومعبرة عن القلق العدمي والبحث عن الذات الذي يرمز الى البحث عن المكان أو الوطن.
تحية لكلّ كادر وصانعي هذا العرض المتماسك وعميق الدلالة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| افتتاح معهد غوتا الالماني في بغداد بحضور غادة العاملي

العدل الأميركية تتحدث عن "مؤامرة إيرانية فاشلة" لاغتيال ترامب

بدءاً من هذا الموعد.. حالة جوية ممطرة تجتاح العراق

ثروة مهدرة.. أكثر من 50% من المصانع العراقية متوقفة عن العمل

صالح المطلك: "العفو العام" مصمم للسراق

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

الحديث عن الكبار

انتشال التميمي. . مجنون المهرجان

الكون في الشعرمـاريا بـوبـوفـا

رسائل في الوجع والمسرّة.. سيرة صادقة عن الوطن الجريح والمنافي الثلاثة

احتفاء بطاقة الفنّ.. غرافيتي الاحتجاج العراقيّ

مقالات ذات صلة

الحديث عن الكبار
عام

الحديث عن الكبار

عبد الخالق كيطانقبل أيام أنهيت قراءة كتاب بعنوان "شخصيات" للكاتب الصحفي المصري محمد عوض. والكتاب عبارة عن بورتريهات قلمية موسعة عن شخصيات مصرية ذائعة. طه حسين وتوفيق الحكيم وأم كلثوم كانوا الأبرز بالنسبة للقارئ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram