ستار كاووش
بعد سهرة صاخبة بنادي إتحاد الأدباء في بغداد قرب ساحة الأندلس، خرجتُ صحبة صديقيَّ الكاتبان شوقي كريم ومحمد مزيد مع صديقين آخرين كانا يشاركاننا ذات الطاولة التي تركنا عليها صدى ضحكاتنا وأقداحنا الفارغة. عند الباب إحتدم الحديث من جديد حول توقعاتنا بشأن من سيفوز بجائزة نوبل للآداب لتلك السنة (1992). وما أن أكملَ شوقي -بصوته المرتفع وهيئته التي كانت تشبه هيئة الكاتب غابريل غارسيا ماركيز- تعداد الأسماء التي يتوقعها، حتى صرنا بمحاذاة فندق صحارى، فتوقفنا هناك بإنتظار الحصول على تاكسي يأخذنا الى الباب الشرقي لنفترق من هناك بعد تناول وجبة سريعة عند عباس صاحب عربة المخلمة الذي يعمل عادة بعد منتصف الليل. إنتظرنا نصف ساعة، لكن الشارع كان هادئاً أكثر من اللازم بسبب تأخر الوقت ولم نحصل على تاكسي، فإقترح محمد مزيد أن نقطع الطريق الى شارع السعدون، فهناك إحتمال حصولنا على تاكسي أكبر من وقوفنا في هذه الزاوية المنعزلة. قطعنا الطريق الى شارع السعدون تتبعنا سحابة من ضحكاتنا التي لا تتوقف. وهناك بدا الشارع خاوياً هو الآخر ولا أثر للتاكسيات التي إختفتْ تماماً. وهنا إنبرى شوقي كريم بواحدٍ من إقتراحاته التي لا تنتهي، وأشار علينا بإكمال الطريق الى شارع أبو نؤاس، ففيه الحركة دائمة حتى الصباح، وسنحصل على مرادنا حتماً. وهناك فوجئنا بالهدوء غير المُتَوَقَّع الذي عَمَّ هذا الشارع، وكأن التاكسيات قد اتفقت جميعها على الابتعاد عن طريقنا. وهكذا كلما مرَّ الوقت أكثر كلما تعقدت أكثر عملية الحصول على تاكسي. ووسط هذا الإنتظار صاح شوقي (مارأيكم أن ننام على عشب حدائق أبو نؤاس؟ فلم يبقَ للصباح سوى بضع ساعات) وهنا إعترضَ أحد الأصدقاء على هذا الاقتراح الذي رآه غريباً، فأجابه شوقي بطريقة مسرحية ساخرة (لماذا تتأفف من هذا العشب الجميل؟ بغداد أُمنا ويمكنها ان تحتضننا هذه الليلة) ثم أردفً (نحن لسنا أفضل من حسين مردان بكل الأحوال). وهكذا سحبنا خطواتنا نحو العشب الممتد على طول كورنيش أبو نؤاس. لكن المشكلة لم تنتهِ عند هذا الحد، فقد كان العشب طرياً ومغموراً بالماء، وهنا مضينا نذرع العشب بأقدامنا بحثاً عن بقعة جافة. وأخيراً أدركنا بقعة مرتفه نوعاً ما ولم يصبها البلل. وهناك وضع كل منا حقيبته أو كتبه تحت رأسه كوسادة وشرعنا بالنوم مطمئنين بعد أن أخذت الحوارات حول نوبل تنخفض شيئاً فشيئاً. ولم تمض بضع دقائق حتى حاصرتنا مجموعة من الكلاب التي شكلت دائرة حولنا وهي تنبح محاولةً الإقتراب منا. وهنا فهمنا أن هذا المكان هو مكانها التي تلوذ به بعدَ تسكعها مثلنا وسط المدينة. الكلاب تنبح ونحن نستلقي فوق كتبنا وحقائبنا، متظاهرين بأننا أمواتاً. وحين بدأت المسافة بيننا وبين الكلاب تصغر، وتصاعدَ الأمر أكثر من اللازم، همسَ محمد مزيد وكأنه يقرأ مقطعاً من إحدى قصصه (إصمدوا قليلاً، الكلاب التي تنبح لا تعض)، وهذا ما حدث فعلاً، حيث أذعنت الكلاب للأمر الواقع وغادرت بعد أن يأستْ من إستعادة مكانها وكأنها تُردد مع نفسها (الإنسان يمكنه سرقة كل شيء حتى مكان نوم الكلاب).
في الصباح مضينا نحو الباب الشرقي، وهناك تفرقنا كل الى جهته أو عمله، حيث ذهبَ شوقي كريم الى الاذاعة، ليكمل طريقه بعدها الى جريدة الجمهورية حيث يعمل محرراً في الصفحة الأخيرة، وودعنا محمد مزيد بإبتسامته الودودة ذاهباً الى مكتب جريدة الخليج الاماراتية التي كان هو محررها الثقافي، فيما تبضعتُ أنا بعض الأقلام ودفاتر الرسم الصغيرة التي أحملها في حقيبتي عادة، وقطعتُ الطريق مشياً نحو شارع الرشيد متأملاً تفاصيل بغداد التي أحبها، ثم عبرتُ جسر السنك نحو مجلة ألف باء التي كنت أعمل رساماً فيها. وهناك إغتسلتُ جيداً وتأكدتُ من هندامي والآثار التي تركها العشب. ثم توجهتُ بسرعة نحو امرأة إسمها (أم سوريَّة) كانت تشغل زاوية في المجلة لبيع الطعام للصحفيين والعاملين هناك، وما أن دخلت حتى وجدتُ سمير علي يتحدث عن فوز ديريك والكوت بجائزة نوبل لتلك السنة، ولم أكن قد سمعتُ بهذا الاسم من قبل، والأدهى من ذلك أن مصمم المجلة بلاسم محمد قد توقف عن وصلة الغناء التي كان يترنم بها وطلبَ مني رسم تخطيط لوالكوت كي يُنشر في المجلة التي توشك أن تذهب الى المطبعة مع خبر فوزه بنوبل. لكننا لم نكن نملك صورة لهذا الكاتب غير المعروف عندنا وقتها، ولا أحد يعرف شكله، حيث لا وجود للأنترنيت أو غوغل كي أبحث عن شكله الذي سأرسمه. ذهبتُ الى سميرة مسؤولة أرشيف المجلة، التي قالت لي بأنها لا تعرفه ولا تملك صورة له، مع هذا سمحتْ لي أن أبحث بنفسي، لكني بعد أن نبشتُ كل الأرشيف باءتْ محاولاتي بالفشل ولم أجد له أية صورة. وهكذا ظلَّ شكله محيراً بالنسبة لي ولا أعرف كيف سأرسمه! وفوق هذا علينا إرسال تصميم المجلة الى المطبعة فوراً. عندها سمعتُ أن والكوت من البحر الكاريبي، فحدست أن ملامحه تميل الى السمرة، وهكذا رسمت البورتريت الصغير ودفعته الى المطبعة. ظهر الخبر مع الرسم في المجلة، وبعدها تناقلت بعض الصحف الخبر أيضاً ووضعت معه تخطيطي الأفتراضي والمتخيل. الجميل في الأمر أنه بعد أيام قليلة ظهرت صورة والكوت في بعض المطبوعات. وكم كانت مفارقة لطيفة بالنسبة لي حين نظرت الى صورة والكوت ووجدتها لا تشبه الرسم الذي رسمته له، لا من قريب ولا من بعيد! والأدهى من ذلك ان بعض الصحف ظَلَّتْ مصرة على نشر رسمي الوهمي بدلاً من صورة والكوت الحقيقية التي لم يصدقها أحد!