علي المدن
الفقه، بمعناه العام، هو الفهم؛ وعندما نتحدث عن فقه الدين، فنحن نشير إلى فهم واستيعاب ما يحتويه الدين من أفكار وآراء. قسّم المسلمون أفعال الإنسان إلى: واجبة، ومحرمة، ومستحبة، ومكروهة، ومباحة. وبالتالي، أصبحت هذه الأقسام تمثل الأحكام الفقهية الدينية، حيث تعكس ما نفهمه من الدين فيما يتعلق بالحظر أو الحثّ، سواء كان إلزاميًا أو غير إلزامي، بالإضافة إلى حالة المباحات التي لا تنطوي على حكم خاص. مع وجود عدد كبير من الفقهاء الذين يفسرون الدين ويصدرون فتاوى، نشأت المذاهب الفقهية في الإسلام. كل فقيه لديه آراء وفتاوى خاصة وطريقة استدلال مميزة أوصلته إلى استنتاجاته. ومن هنا نشأت الحاجة إلى إجراء مقارنات بين الفقهاء.
الفقه المقارن والفقه الخلافي
إذا تناولت هذه المقارنات الفتاوى فقط دون التركيز على طرق الاستدلال، فإننا نتحدث عن “الفقه المقارن”، حيث يتم مقارنة الآراء والفتاوى لإظهار الفروق في فهم الموضوعات والمسائل دون التعمق في بحث الآليات الاستدلالية.
أما إذا تناولت المقارنة اختلافات الفقهاء في أنماط الاستدلال وأسباب الاستنتاج والترجيح، ووازنت بين آليات الاستدلال ومقدماته بالتحليل والنقد والاعتراض، فإن ذلك يُعرف بالفقه الخلافي أو علم الخلاف. وعندما يمتلك الفقيه أتباعًا ومريدين، أي عندما يكون له مدرسة فكرية أو مذهب معين، يهتم الفقه الخلافي بتوضيح الطريقة البحثية الخاصة بذلك المذهب ومقارنته بالمذاهب الأخرى، فيقدم طريقة على أخرى، ويناصر طريقة على حساب طريقة أخرى.
كتب الفقه المقارن والخلافي
هناك العديد من الكتب التي تناولت كلا النوعين من المقارنة والموازنة الفقهية. ومن أشهر ما وصلنا من الكتب في هذا المجال التي ألفها الشيعة الإمامية كتاب «الإعلام بما اتفق عليه الامامية من الأحكام» للشيخ المفيد، و»الانتصار في انفرادات الإمامية» لعلي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى، و»الخلاف» لأبي جعفر الطوسي، و»تذكرة الفقهاء» و»منتهى المطلب» لابن المطهر الحلي، وغيرها من المؤلفات. وفي القرن العشرين، نجد أيضًا كتبًا لمحمد جواد مغنية ومحمد إبراهيم نجاتي وغيرهما تنتمي لهذا الحقل.
موقف الإمامية من الاختلاف الفقهي
ينصب اهتمام هذه الكتب الإمامية على دحض ما نسب لفقهاء الإمامية من «الانفراد» في الفتاوى عن بقية المسلمين ومخالفتهم للإجماع الإسلامي، وإثبات أن (أكثرها [أكثر الفتاوى] موافق فيه الشيعةُ غيرهم من العلماء والفقهاء المتقدمين أو المتأخرين) (الانتصار للمرتضى). أما ما ليس لهم موافق فيه، فإن لدى الإمامية (من الأدلة الواضحة والحجج اللائحة ما يغني عن وفاق الموافق، ولا يوحش معه خلاف المخالف) (المصدر ذاته).
الفقهاء المتقدمون والعقائد
لقد رفض هؤلاء المؤلفون الإماميون، وخصوصا المرتضى الذي يعود له فضل الاهتمام الأكبر بهذا الموضوع، أن تدار هذه القضية (قضية اختلاف الفتاوى) على أساس الموافقة والمخالفة لآراء الآخرين من الفقهاء، ورأوا أن الصحيح هو إدارتها من خلال ما تمتلك كل فتوى من أدلة رصينة علميا، يعرف بصحتها وسلامتها في الاستدلال أو عدمه، فالمهم هو «الدليل» وليس الاتفاق مع الآخرين أو الاختلاف معهم. قال المرتضى: (ومما يجب تقديمه - فهو الأصل الذي عليه يتفرع ما نحن بسبيله ومنه يتشعب - أن الشناعة إنما تجب في المذهب الذي لا دليل عليه يعضده، ولا حجة لقائله فيه، فإن الباطل هو العاري من الحجج والبينات البري من الدلالات. فأما ما عليه دليل يعضده وحجة تعمده، فهو الحق اليقين، ولا يضره الخلاف فيه وقلة عدد القائل به، كما لا ينفع في الأول الاتفاق عليه وكثرة عدد الذاهب إليه) (الانتصار).
وأكثر ما يثير الاهتمام في موقف متقدمي فقهاء الإمامية (ونحن نركز هنا على المرتضى الذي تأثر به جميع من تأخر عليه) أنهم انتقدوا ربط الخلافات الفقهية بالمسائل الكلامية العقائدية، وتأسيس الأولى على الثانية ثم اتهام كل طرف للطرف الآخر المخالف له بأنه صاحب بدعة وضلالة، وأن قوله ليس بحجة وأن مقدماته التي ينطلق منها فاسدة؛ لأنها تخالف الآراء العقائدية لبقية الفرق الإسلامية. كتب المرتضى معترضا على هذا اللون من التفكير بالقول: (لا تخرجوا عن قانون الكلام في فروع الفقه، وتمزجوه بغيره مما يحوج إلى الكلام في أصول الديانات […]، ولا تذكرونا في هذا الباب ما قد تركنا الإلمام به مقاربة ومساهلة، فأنتم تعلمون أن الشيعة الإمامية تعتقد فيمن يخالفها في الأصول ما يمنع من أن يراعى قوله في إجماع المسلمين أو خلافه) (الانتصار). وما يقوله المرتضى هنا إن دراسة الخلافات الفقهية تبقى في إطار الفقه وإدلته، وليس صحيحا إخراج البحث فيها إلى المسائل العقائدية، لأن العقائد قد يبنى عليها ما لا يمكن التنازل عنه، كما في كل قول ينتهى إلى الإمام المعصوم عند الإمامية، فإن هذا النوع من الأقوال لا يسع الفقيه الإمامي مخالفته تبعا لعقيدته الخاصة في الإمامة. ولكن مما تقدم يتضح إن المرتضى يعتقد إن نسبة هذا النوع من الأحكام في الفقه قليلة ولا تمثل أكثر ما قيل إن الإمامية انفردت به.
الفقه الكلامي: اتجاه فقهي معاصر
على النقيض من التيارات الفقهية الموروثة، يوجد اتجاه فقهي معاصر لدى الإمامية يمنح الأولوية للفقه الخلافي المبني على الاختلافات العقائدية، ويضخم من حجمه وأهميته إلى حد يصل إلى التنظير لوجود قطيعة مذهبية بين فقه الإمامية وفقه باقي المسلمين. يُطلق على هذا النهج «الفقه الكلامي»، أي الفقه الخلافي المؤسس على علم الكلام، ويعرّفه علي الشهرستاني بقوله: «الفقه الكلامي هو: علم يبحث في الفروع الفقهية الضرورية القطعية - غير الشاذة والنظرية - والتي صار بعضها شعاراً للمذهب الحق. وغايته: تحكيم عقيدة أتباع العترة والتعرّف على المبتعدين عن السنة النبوية وأسباب ذلك الابتعاد» (راجع: ألفية السيد المرتضى فرصة للتعريف بالفقه الكلامي).
الشهرستاني هنا يميز بين الفروع الفقهية القطعية والنظرية غير القطعية، وهو تمييز شائع بين المذاهب. ومع ذلك، فإنه لا يدخل في تفاصيل “تطبيقات” هذا التمييز ولا يحدد حجم أو عدد المسائل المتعلقة به. لكن بعض من ينتسبون للفقه، دون أن يكونوا من الباحثين المعروفين بالكتابة والتأليف، يطرحون أفكارًا عامة توحي للمستمعين بأن هذه المسائل تشمل جميع أبواب الفقه، وهو ما قد يسبب التباسًا حول حجم هذا الاختلاف.
التقريب بين المذاهب في الفقه الإمامي: من التنوع إلى الانغلاق
يبدو للبعض، ممن يتابعون الدراسات الفقهية من بعيد، أن قضية الفقه هي مجرد تنوع في الآراء، وأن هذا التنوع هو نتيجة طبيعية لتطور داخلي في التفكير بالشريعة الإسلامية، دون أن يخضع للتوجهات الايديولوجية. لكن من المهم التذكير هنا بأن الدراسات الفقهية في القرن العشرين، وعند أهم فقهاء الإمامية، كانت تتجه نحو تعزيز فكرة التقريب بين مذاهب المسلمين. وكان الاتجاه السائد هو تشجيع وتطوير الفقه المقارن، وهذا بالضد مما يحصل اليوم.
على سبيل المثال، قدم محمد باقر الصدر في الستينيات دراسة فقهية مهمة أسسها على التنوع الفقهي. وصرح بأن بناء نظرية فقهية متكاملة في موضوع معين لا يمكن أن يعتمد على آراء فقيه واحد أو حتى على مجموعة من الفقهاء داخل مذهب واحد، بل يجب - لضرورات بحثية شرحها في دراسته - أن يعتمد على آراء جميع مذاهب المسلمين، وقد جسّد هذا التوجه في كتابه “اقتصادنا”، حيث جمع بين آراء الفقهاء من المذاهب الإسلامية المختلفة.
محاولة أخرى بارزة في هذا المجال هي للشيخ محمد جواد مغنية، الذي قدّم في كتابه الفقه على المذاهب الخمسة دراسة مقارنة تناولت موضوع الأحوال الشخصية. كما أنه تناول في كتابه “فقه الإمام الصادق” آراء بقية فقهاء المسلمين، بل ورجّح أحيانا آراءهم على ما يذهب إليها فقهاء الإمامية، منتقدا في الكتابين فكرة الانغلاق على مذهب واحد، داعيا إلى الاستفادة من آراء جميع المذاهب الإسلامية.
كان هذا الاتجاه في الفكر الفقهي الإمامي يسعى إلى تجاوز الحدود المذهبية الضيقة، ويرى في التعدد الفقهي فرصة لبناء فهم أعمق وأكثر شمولية لقضايا الدين والشريعة. أما الاتجاه الجديد المسمى بالفقه الكلامي فقد ولد في ظل العقود الأخيرة الغارقة في التعصبات الطائفية، ولذا تختلف مساعيه عن الاتجاه الأول، ونراه يميل إلى تكريس قطيعة مذهبية وهمية وتباين مذهبي مغلق.