جَسْتِنْ وِلبي*
ترجمة: لطفية الدليمي
في خضمّ جحيم الحرب العالمية الثانية وجد الملازم الالماني كورت روبر -الذي عمل قسّاً وطبيباً في الجيش الالماني الذي يقاتل في ستالينغراد السوفييتية- نفسه وهو يرسمُ لوحة سيّدة، ثمّ بعد أن أتمّ رسمها علّقها بمسامير على حائط طيني خارج الملجأ الذي يحتمي داخله. في جحيم الظلمة والوحشية والقسوة التي تفرضها أجواء الحرب رسم روبر أمّاً تحتضنُ وليدها لتحميه من شرور العالم. على هوامش الصورة الخارجية كتب الملازم الالماني هذه الكلمات بالالمانية: "نور، حياة، حُب Licht, Leben, Liebe ". في أعماق كلّ أشكال الصراع والمعاناة التي كثيراً ما حصلت في تاريخ البشرية (ولم تزل تحصل في أيامنا هذه)، تخيّل الناس دوماً تلك الطموحات الممكنة: نور، حياة، حُب.
السلام أمرٌ لطالما تاق البشر إليه: في حيواتنا، وفي عائلاتنا، وفي مجتمعاتنا، وفي بلداننا، وفي عالمنا بأكمله؛ وبرغم هذا التوق الممتد في أعماق التاريخ فإننا نعيشُ مرة أخرى في ظلّ حرب في أوربا حيث تكافحُ أوكرانيا من أجل الدفاع عن وجودها بوجه الروس، وقد سمعنا الكثير من القصص التي تتكرّر على نحو قياسي بشأن الفوضى والقسوة والمعاناة والتدمير التي تقترن بالحرب الروسية-الاوكرانية وكلّ الحروب الاخرى، إلى جانب تأثيرات هذه الحروب على الناس الابرياء الذين لا يد لهم في إشعالها أو إطفائها. إنّهم حطبُ هذه الحروب وضحاياها المجهولون.
لا أظنُّ أننا نعاني نقصاً في الصراعات والاضطرابات السياسية والثقافية،وبمستويات متعدّدة، في هذا البلد(يقصد بريطانيا، المترجمة) أو في العالم. كلّنا إختبرنا صراعات شخصية مع أصدقاء خُلّصٍ لنا أو مع بعض أحبائنا، وفي الغالب خلّفت تلك الصراعات علاقات مثلومة مشوبة بألم ممض يمكن أن ينتج عنه ندوب نفسية تستمرّ طويلاً. لذا من الواجب أن نتساءل: لماذا نستمرّ في ارتكاب الخطأ ذاته، معيدين هذه السلاسل المتعاقبة من السلوكيات الصراعية على كل مستويات مجتمعنا وعالمنا؟
سؤالُ الهوية Identity يمثّلُ جوهر كلّ فهم حقيقي للمعضلة الصراعية المجتمعية والعالمية. يمكنُ للهوية أن تكون موروثة، ويمكن لها كذلك أن تُغْرَسَ غرساً في الانسان؛ لكن عندما تبلغ الاوضاع مرحلة الصراع فإنّ الهوية تختصُّ بعلاقاتنا مع الآخرين. عندما نقعُ في فخّ الهوية عبر تعريف أنفسنا مَنْ نكون؟ ومَنْ لا نكون؟ أو عبر اللجوء لفعالية قسرية تفرض على الآخرين هويات محدّدة فإنّنا حينها نجعل أنفسنا عرضةً لخروقات خطيرة تحصل في نسيج علاقاتنا مع الآخرين.
ما ذكرته أعلاه بشأن الهوية لا يعني بأي حال من الاحوال أنّ السلام هو نوعٌ من الإجماع الهوياتي: هوية متناغمة متشاركة من قبل الجميع في كلّ العالم. كلا. السلام الحقيقي والممكن هو القدرة على التعامل مع مسبّبات الفتنة والكراهية والتصارع بوسائل غير عنفية. إنّه التحوّل من الصراع العنفي إلى حالة عدم الاتفاق غير المقترن بالعنف.
لدينا في الفكر المسيحي (والاديان بعامّة) مفهوم الحرب العادلة Just War، الذي يسعى لفهم كيفية تسويغ الصراع وجعله مقبولاً-أحياناً- من الوجهة الاخلاقية؛ لكننا لا نمتلك مكافئاً مقبولاً لمفهوم "السلام العادل". نحنُ نقبل السلام كحالة بديهية ليست في حاجة لتسويغ؛ إذ نعلم جميعاً وبحسّنا الباطني العميق والفطري أنّ السلام أمرٌ حسن وأفضل من الحرب. ما الذي أفضت إليه هذا الحالة؟ إنتهينا إلى أنّنا نفكّرٌ كثيراً في الكيفية التي نحاربُ بها؛ لكن لم نفكّرْ بذات العمق بشأن الخيارات الممكنة للحرب( أو أي شكل من أشكال الصراع العنفي). لم نتعلّم على نحو كافٍ ومقبول كيف نفكّكُ ونخفّفُ ونكبحُ عناصر الصراع والتنافس التي هي خصيصة ملازمة لتكويننا البشري.
في ثقافة كثقافتنا تُعلي شأن النتائج الفورية والاشباع السريع فإنّ موضوعة التحوّل من الصراع العنفي إلى بدائل غير عنفية ليست بالأمر الذي يمكن أن يحصل في مدى زمني قصير. ليس ثمّة حالة نقول فيها للمتصارعين" فليقبّلْ كلٌّ منكما الآخر، وليَمْضِ كلٌّ في سبيله" وانتهى الامر!!. ما يحصل في الغالب هو نوعٌ من التحوّل التدريجي المقترن بالبطء الذي قد يمتدُّ أحياناً لبضعة أجيال، وخلال فترة التحوّل هذه يمكنُ أن ينقلب العداء والعنف إلى إحترام وثقة. أذكرُ بوضوح قائداً إيرلندياً شمالياً إستمعتُ إلى مقابلة إذاعية له في بواكير صيف عام 1998 بعد بضعة أسابيع من توقيع إتفاقية الجمعة الطيبة Good Friday Agreement التي وضعت حداً للصراع الدامي في إيرلندا الشمالية. سُئِل هذا القائد عن حقيقة بلوغ تسوية مع الحكومة البريطانية؛ فأجاب أنّ فكرة بلوغ تسوية حقيقية في أسابيع معدودة تبدو فكرة سخيفة إذا وضعنا في حسابنا ثلاثين سنة من الصراع العنفي القاتل، وعدّة قرون من الشعور بالمرارة والظلم.
الجروح العميقة تتطلّبُ وقتا طويلاً لكي تلتئم وتصبح ندوباً سطحية. كلٌّ منّا يحملُ ألمه الشخصي الذي يجعلٌ الامور شاقة علينا عندما نريدُ الاعتذار عن أفعال خاطئة فعلناها، أو عندما نريدُ مسامحة من أخطأوا بحقّنا. عندما نتطلّعُ إلى بلوغ تسوية يجب أن ندرك-وأن نتعاطف كذلك مع- حقيقة قلوبنا المكلومة وأرواحنا المعطوبة. التسوية الحقيقية في الغالب مكلفة لنا ولها تبعاتها الهائلة؛ لكنها دوماً أقلّ تكلفة من الخيارات الاخرى: الصراع العنفي الذي يقود لخسارة كلّ الاطراف المتصارعة.
كنتُ قبل سنوات خلت في بوروندي، البلد الافريقي، عقب نهاية الحرب الاهلية فيه. سعيتُ حينها لتسهيل عقد مؤتمر للتسوية بين قادة المتمرّدين والحكومة. في اليوم الثالث من المؤتمر أشار أحد الرجال في الغرفة التي عقدنا فيها المؤتمر باتجاه رجل آخر يجلس في طرف آخر بعيداً عن الرجل الاول، قائلاً:" هذا الرجل الذي ترونه أمامكم قاد ميليشيا قتلت ثلاثين ألفاً من البشر. كيف يمكنني مسامحته؟ وكيف يمكن قبول تسوية بيننا؟". إمتدّت بحيرةٌ قريباً من غرفة المؤتمر، وكان يمكن رؤيتها عبر النافذة. أشرتُ بإصبعي نحو تلك البحيرة عبر النافذة وسألتُ الرجل الممتعض من التسوية:" لو خرجتَ في نزهة بقارب في مياه تلك البحيرة وحصل أن إنقلب بك القارب؛ فما الذي ستفعله؟"، أجابني:"أسبح بالطبع". قلت:"ولو لم تسبح، ما الذي سيحصل؟"، أجابني:"سأغرق". أجبته:" لو لم تصل لتسوية مع خصمك فستغرقان أنتما الاثنان. سيذبح كل منكما الآخر. عليك أن تفعل شيئاً لتنقذ نفسك وتنقذ خصمك معك".
التعامل مع الحالات الصراعية يعني التعامل مع أناسٍ ذوي خواص معقّدة، وكذلك يعني التعامل مع حالات معقّدة. سنضطر في خضمّ هذا الوضع للتعامل مع أناسٍ معطوبين في أرواحهم أو في عقولهم، قد يتصرّفون أحياناً بطرائق طيبة، وفي أحيان أخرى يظهرون ككائنات شريرة إلى حدود غير متوقّعة. أحياناً قد يبدو أحد أطراف الصراع ذا قدرة هائلة، والطرف الآخر يبدو واهناً بصورة مرعبة. هذا ما يحصل عادة في الصراعات غير المتكافئة. ستكون التسوية المرتجاة دوماً معقّدة وذات عيوب محتّمة لأنّ المكلّفين بأمر تحقيق التسوية بشرٌ معقّدون وذوو عيوب كذلك. عندما نفكّرُ في تسوية مقبولة لأي صراع عنفي (حرب مثلاً) سيبدو الامر مخيفاً بالنسبة لنا وخارج حدود قدراتنا البشرية على الدوام لأنّنا سنستحضرُ في أذهاننا تواريخ طويلة من الصراعات التي إقترنت بمناسيب عظمى من العنف والقتل والدمار في كلّ أنحاء العالم. ربما قد نصابُ بالاحباط والتشوّش ونتساءل: من أين نبدأ بالامساك بالخيط المؤدي للتسوية وسط هذه الفوضى الضاربة التي نراها بأعيننا؟ وكيف يمكننا تحويل الكراهية والعداء إلى علاقات جديدة تخلو من الكراهية والعداء في أقلّ تقدير، ثمّ يمكن بعد زمن معقول دفع العلاقات نحو مرتقيات إنسانية أعلى.
لكن في كلّ الاحوال، ووسط كلّ مظاهر اليأس وفقدان الامل، ثمّة رجاء عظيم يجب أن نسلمه الزمام. أحد أصدقائي الاساقفة عمل لزمن طويل في جمهورية الكونغو الديمقراطية. كان أغلبُ عمله ينصبُّ في التعامل مع الناجين من البشر الذين يعيشون أسوأ الاوضاع البشرية المتصوّرة: لاجئون، أطفال مجنّدون في الحرب، ضحايا الاغتصاب والعنف الشديد. عندما زرتُ صديقي الاسقف دهشتُ من حجم المعاناة البشرية. سألته:" كيف تتعامل مع كلّ هذا الخراب الانساني؟"، أجاب:" نحنُ نفعلُ ما أعطانا الربّ موارد تكفي لفعله. ما عدا هذا نحنُ نتركه!!".
في محاولتنا خلق سلامٍ في العالم يمكننا فقط فعلُ ما يمكنُ فعله. في الغالب فإنّ ما يمكننا فعلُهُ يكون مكتنفاً بمشقة هائلة مهما بدا صغيراً في حجم مفاعيله: أن نساعد طفلاً مبعداً في الاتصال الهاتفي بمن يريد مهاتفته، أو أن نغفر ونتسامح بشأن كلمة قاسية قيلت لنا من أحد ما. مثل هذه الافعال وسواها هي ما يستطيعه كلٌّ منّا للمساهمة في بناء عالم أكثر سلاماً.
ثمّة ثلاث عادات سلوكية لها القدرة على جعلنا نبلغ إنعطافة تحوّلية حاسمة من شأنها إستعادةُ علاقاتنا المخرّبة، وبناءُ علاقاتٍ جيّدة بوجود الاختلافات الثقافية والحضارية، وتجسيرُ التباينات المحتّمة بين البشر:
أوّلاً: كن محباً للمعرفة والاطلاع. عندما نقابلُ مظاهر الاختلاف الثقافية والحضارية، أو عندما نقابلُ أناساً لا نفهمهم، هل نستمعُ لحكاياتهم حقاً بإنتباه،ونتفكّرُ في الفائدة التي قد تأتي لنا من سماع هذه الحكايات المختلفة عمّا نسمع في العادة؟ هل ندخلُ في نقاشات متّسمة بروح التواضع والرغبة في التعلّم الحقيقي مع هؤلاء الذين لا يشبهوننا؟ هل نحنُ منفتحون ذهنياً ونفسياً للتعلّم من البشر الذين لا نتفق مع رؤاهم في الحياة؟
ثانياً: كُنْ حاضراً. لا تلعب دور المستمع فحسب. شارك الآخرين نقاشاتهم واحرص على الكشف عن موارد قوتك وضعفك، وعلى ما تؤمن به من غير تدليس أو مناورة. إحرص على إحترام كينونات الآخرين وخواصهم الانسانية.
ثالثاً: فعّلْ خيالك. السلام يحتاجُ إنزياحاً في خيالنا الاخلاقي، وتحوّلاً في فهمنا لما يقعُ في حدود استطاعتنا. الخيال الاخلاقي يمكِّنُنا من كسر حلقات العنف المستديمة، وتجنّب الاخطاء المتواترة، والابقاء على قدرتنا الخلّاقة في تخيّل عالمٍ يسوده السلام قبل أن يصبح هذا العالمُ واقعاً مشهوداً للجميع. الكثير من إعادة تشكيل خيالنا الاخلاقي يحصل بطريقة جمعية؛ لأنّنا مع الآخرين نستطيعُ تصوّر وخلق شيء جديد.
من المؤكّد أننا سنصنع أخطاءً، وسنقدِمُ على فعل أشياء سيئة، وسنؤذي آخرين في المسيرة الطويلة لحياتنا. هذه هي بعضُ طبائع الكائن البشري الذي فينا. لكن يجب أن نكون دوماً مسكونين بأملٍ واعد مفادهُ إمكانية إصلاح الاعطاب التي كنّا سبباً مباشراً أو غير مباشر فيها، وسواءٌ أكنّا نقصدُ فعل السوء أم فعلناه بطريقة غير مقصودة. أمْرُ المصالحة (التسوية) ليس سهلاً ميسّراً ومباشراً. التوبة والمسامحة المطلوبتان في كلّ مسامحة تعنيان ألماً وتضحية بالتأكيد؛ لكنّ عزاءنا وسلوانا هو أنّ تضحيتنا وألمنا يمكن أن ينبثق عنهما عالمٌ جديد تقوده علاقات جديدة بين من فضّلوا إعلاء شأن الفهم المتبادل والعيش المشترك برغم كلّ إختلافاتنا الثقافية والحضارية.
- جستن ولبي Justin Welby: هو أسقف كانتربري Archbishop of Canterbury (أعلى شخصية دينية) في الكنيسة الانكليكانية البريطانية. أحدث كتبه المنشورة هو قوة المصالحة (التسوية) The Power of Reconciliation. نشِر عام 2022.
ملاحظة المترجمة: الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة(غارديان) البريطانية بتاريخ 6 حزيران (يونيو) 2022 ضمن سلسلة The Big Idea الاسبوعية. العنوان الاصلي للمادة المنشورة باللغة الانكليزية هو:
Is a world without violent conflict really possible?