TOP

جريدة المدى > سينما > بطاقة وطنية.. إشكالية التوثيق في دوائر الأحوال المدنية

بطاقة وطنية.. إشكالية التوثيق في دوائر الأحوال المدنية

نشر في: 17 أكتوبر, 2024: 12:04 ص

عدنان حسين أحمد
يلامس المخرج هادي ماهود في أفلامه الوثائقية والروائية القصيرة هموم المواطن العراقي البسيط ومعاناته اليومية. وهو، كمخرج وإنسان، لم يصعد يومًا إلى برجه العاجي، إن كان لديه برج يرتقيه في أحلام اليقظة والمنام، لأنه ابن المجتمع الذي يذهب إلى السوق، ويجلس في المقهى الشعبي ويستمع جيدًا إلى المشكلات العويصة التي تؤرّق الناس، وتُثبط عزائمهم، وتأخذ منهم كل يوم مأخذًا كبيرًا. ليس بالضرورة أن تكون ثيمة الفيلم كبيرة أو معّقدة أو حسّاسة. فثمة مشاكل قد تبدو هامشية أو منسية أو مهملة لكنها تصلح لأن تكون مادة لفيلم وثائقي يرصد طبيعة التعامل بين دوائر الدولة الرسمية ومواطنيها الذين يجدون أنفسهم تحت رحمة موظفي الدولة الذين يتحولون إلى روبوتات حديدية تتحرّك بلا مشاعر أو أحاسيس إنسانية. لم يختر المخرج الدؤوب واللمّاح هادي ماهود شخصية عابرة بل وقع اختياره هذه المرة على فنّان تشكيلي وموسيقي معروف ضمن حدود محافظته في الأقل وهو إياد فيصل الظاهر وقد أرانا المخرج عددًا من الحوارات والمقالات والريبورتاجات عن تجربته الفنية التي تعكس أساليبه ورؤاه الفكرية والجمالية. كما استمعنا إلى إياد وهو يؤدي عددًا من الأغاني لمطربين عراقيين وعربًا في إشارة واضحة لتعلّقه بالفنون القولية وغير القولية.
قدّم الفنان التشكيلي إياد فيصل الظاهر مثل كل العراقيين طلبًا للحصول على "البطاقة الوطنية" في عام 2021م لكن موظفًا في مديرية الأحوال المدنية بالسماوة أحاطهُ عِلمًا بعد أن أدخل المعلومات المطلوبة في الحاسوب بوجود خطأ في السجل الأساسي الذي يشير إلى البادية الجنوبية، وهذا عنوان مفتوح لا يوضّح على وجه الدقة مكان ولادته مع أنه مولود سنة 1953م في ناحية "بصيّة" بقضاء "السلمان" التابع لمحافظة السماوة. وهنا تبرز مشكلة التقسيمات الإدارية فقبل تحوّل العراق إلى النظام الجمهوري كانت البادية تنقسم إلى ثلاثة تقسيمات إدارية وهي: البادية الجنوبية، والبادية الشمالية، وبادية الجزيرة لكن بعد سنة 1958م أُسس نظام الألوية أو المحافظات وأنّ إياد فيصل ينتمي جغرافيًا إلى محافظة السماوة التي كانت سابقًا قضاءً تابعًا لمحافظة الديوانية لكنها انفصلت عن هذه الأخيرة وأصبحت محافظة قائمة بذاتها ولها سجلاتها المدنية الخاصة بها. تُرى، ما ذنب إياد في هذه الحالة؟ ولماذا يدفع ثمنًا باهضًا لخطأ لم يرتكبه؟ وهل يُعقل أن يُبدد هذا الإنسان، وهو الفنان التشكيلي المُرهف، أربع سنوات من حياته من أجل الحصول على "البطاقة الوطنية" التي لا تتضمّن أكثر من المعلومات الشخصية في الجنسية وشهادة الجنسية العراقية اللتين يمتلكهما معًا ويشيران بدقة إلى أنه من سكنة محافظة السماوة التي وُلد فيها، وترعرع في جنباتها، وتشرّب بثقافتها المحلية. يرصد المخرج هادي ماهود جانبًا من معاناة الفنان إياد فيصل وهو يراجع مديرية الأحوال المدنية في السماوة التي تحوّله بدورها إلى دائرتيّ التخطيط العمراني والتخطيط الإنمائي في المحافظة نفسها، ثم إلى مديرية الأحوال المدنية العامة ببغداد، ومنها إلى دائرة الواقعات في مديرية الأحوال المدنية العامة وينتهي به المطاف إلى تصحيح سجل المواطن إياد فيصل وجعله "ديوانية - ديوانية" حسب طلبه، وهو لم يطلب ذلك، بدلًا من السماوة التي وُلد فيها، ودرس في مدارسها لكن بطاقته الوطنية سوف تشير لاحقًا إلى محافظة الديوانية التي انفصلت عنها السماوة واستقلت سنة 1969م وأصبحت محافظة قائمة بذاتها.
يتضمّن هذا الفيلم الذي بلغت مدته قرابة 12 دقيقة الكثير من التفاصيل التي يسعى مخرج الفيلم أن يسلّط عليها الضوء ويلفت إليها انتباه المُشاهد من بينها بعض الأغاني العراقية والعربية، وشيوع المناخ الديني الذي يعتمد على الخرافات والأساطير التي تُزاحم بدورها المعطيات الثقافية والفنية المتحضرة بكل أشكالها، بل أنّ البعض من رجال الدين المتهافتين لا يجدون حرجًا بلطم السامع بعبارة "أجلّكم الله" وهم يتحدثون عن الإنسان المُغنّي وكأنّ الغناء عمل منكر أو سُبة أو شتيمة ينبغي تفاديها وتخليص الناس من مخاطرها الجمّة. وقد اختار المخرج هادي ماهود لبطل فيلمه إياد فيصل أن يترنّم بأغنية "هوى الناس" من كلمات زهير الدجيلي وألحان كوكب حمزة وغناء المطرب سعدون جابر التي يقول في أحد مقاطعها:"محيّرني والله يا هوى الناس، مدمّرني والله يا هوى الناس، عاشق، عاشق تراني يا هوى الناس" إلى آخر هذه الأغنية الرومانسية التي تذكِّرنا بالزمن الجميل الذي يحتفي بـ "القدّاح والشموع والعصافير" أمّا النهاية الجميلة لهذه الأغنية الرومانسية الوطنية فهي لوحدها درس أخلاقي وفكري وجمالي نحتاجه في كل وقت وحين حيث يختمها الشاعر بما يشبه الحكمة الخالدة التي تقول:"محد يعرفك يا هوى الناس غير اليحبّ الوطن والناس" فهل يصح أن نسمّي هذا الكلام الجميل مُنكرًا أو قبيحًا أو شنيعًا؟
أمّا الأغنية الثانية التي ترِد في هذا الفيلم فهي مقطع من أغنية "أنساك" كلمات مأمون الشنّاوي وألحان بليغ حمدي وغناء أم كلثوم وهي من مقام الرست حيث يُدندن بها أحد الرُكّاب في سيارة التاكسي ويكملها إياد فيصل بصوت لا يخلو من التحدي لرجال الدين الزائفين الذين حوّلوا حياتنا اليومية إلى جحيم لا يُطاق. تقول كلمات الأغنية:" كان لك معايا أجمل حكاية فى العمر كله / سنين بحالها، ما فات جمالها، على حُب قبله / سنين ومرّت زىّ الثوانى فى حبك إنتَ / وإن كنت أقدر أحب تانى، أحبك إنتَ".
يتضمّن الفيلم أيضًا على محاضرة بعنوان "ثقافة البادية في المثنى" للكاتب والروائي أحمد حمدان الجشعمي الذي ضيّفه فرع اتحاد الأدباء والكُتّاب في محافظة المثنى تحدث فيها عن خصوصية الثقافة في بادية السماوة وقد أوضح المُحاضر إشكالية التقسيم الإداري وانفصال قضاء السماوة عن محافظة الديوانية عام 1969 وتحوّله إلى محافظة قائمة بذاتها. وكانت هذه المحاضرة فرصة جيدة للإطلال على البيت التراثي في السماوة حيث خصّه هادي ماهود باهتمام كبير في بعض أفلامه الوثائقية السابقة.
يشتمل هذا الفيلم على لقاءات عدة لوزير الداخلية عبدالأمير الشمّري مع عدد من المواطنين ويسهّل أمورهم في إشارة إلى وجود بعض المسؤولين العراقيين الذين يبذلون قصارى جهدهم لخدمة المواطن العراقي الذي تُحيطه المشاكل والمعوّقات من كل حدبٍ وصوب. لعل العِبرة أو الثيمة الرئيسة لهذا الفيلم أنّ المواطن والفنان التشكيلي والموسيقي إياد فيصل الذي انشغل على مدى أربع سنوات بمعاملة الحصول على البطاقة الوطنية وبذل فيها جهودًا كبيرة في مراجعة العديد من الدوائر الرسمية في محافظة المثنى والعاصمة بغداد قد حصل على البطاقة في خاتمة المطاف لكنّ الخطأ الذي أوقعوه فيه هو انتسابه إلى محافظة الديوانية وليس السماوة التي وُلد فيها ونشأ في مضاربها، ونهل منها ثقافته البصرية والموسيقية على حد سواء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

الرحلة الساميَّة لتومو بوزوف.. فيلم (الرجل الذي لم يستطع البقاء صامتًا)

فلم حياة الماعز: تاريخ الوجود البشري الرهيب

مقالات ذات صلة

فلم حياة الماعز: تاريخ الوجود البشري الرهيب
سينما

فلم حياة الماعز: تاريخ الوجود البشري الرهيب

ترجمة: قحطان المعموريفي مونولوج داخلي مغلّف بالسخرية تتضمنه رواية الكاتب بنيامين الشهيرة "أدوجيفيّام" (حياة الماعز)، والذي يعكس الكيفيّة التي يفكّر فيها نجيب بطل الرواية وبصوتٍ عالٍ في المرحلة البائسة من حياته قائلاً: " عندما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram