طالب عبد العزيز
في (المكتبة العلمية) وهي واحدة من أقدم المكتبات في البصرة، والتي يديرها الصديق د. حسين، جلست منتظراً أحد الأصدقاء الكُتبيين، ومن رفٍّ قريب في الواجهة فوجئت بأكثر من عدد لمجلة (العربي) الكويتية، والتي تعدُّ واحدة من أقدم المجلات العربية، في الكويت والخليج، المجلة التي كانت زاداً ثقافيا ومعرفياً لملايين القراء العرب مطلع كل شهر ميلادي، ويسارع الى اقتنائها الموظفون والكسبة والطلبة.. حتى باتت أعدادها تشكلُّ معلماً بصَريّاً في كلِّ مكتبة، وترى على أكثر من طاولة، في أمكنة كثيرة، وتتراكم عاليةً في زوايا عديدة من البيت، فنجدها في غرفة النوم وصالون الحلاقة والمقهى وعلى مكتب التاجر وصاحب المطعم وفي حقائب المحامين والأطباء وسواهم.
المجلة التي تأسست في العام 1958 ورأس تحريرها أول مرة الاديب أحمد زكي وأعقبه أحمد بهاء الدين وتناوب على العمل فيها أساتذة التحرير والتصوير والإخراج وكتب فيها أساطين الثقافة العربية وحافظت على تقاليدها منذ صدور العدد الأول قبل ثلاثة ارباع القرن الى اليوم تبويباً وإخراجاً وألوانا، وارست لتقاليد صحفية في الكتابة والتصوير والمواد المتنوعة، حتى باتت واحدة من علامات الصحافة العربية، التي لا يستغني عنها الكثير من القراء العرب، على الرغم من وجود العشرات من المطبوعات الثقافية والعلمية المطبوعة والمعاينة على شاشات الحواسيب ووسائط التواصل وغيرها.
في بداية مشوارنا المعرفي كانت (العربي) واحدة من مصادر العديد من الادباء، مختلفي التوجهات، من اليسار واليمين، لكنَّ ماكنة المعرفة ذات الوجهة اليسارية- التقدمية التي كانت طاغية في سبعينات القرن الماضي جعلتنا نفرق بين وجهات النظر التقدمية والرجعية، حيث كان اليسار في أوجه وعظمته، والمطبوعات العلمية والأدبية مثل(الفيلم السوفيتي والمجلة والحوادث وسبوتنك وغيرها) تصلنا بالبريد المظروف من موسكو، وهي مطبوعات تناغمت مع أفكارنا المغذاة سلفاً بروايات تولستوي وغوركي وايتما توف وبوشكين وسواهم والتي تصدر عن دار التقدم. في الفترة تلك كانت مجلة العربي تدخل بيوتنا من بابها الأكثر خجلاً، فقارئها كان يوصم بالرجعية، لما فيها من مواد لم تكن لتخلو من توجيهٍ معين، غير أنَّها ظلت زاداً مختلفاً، نتناوله على استحياء، كيف لا وقد تشكلت في لا وعينا عبر منظومة توجيهية هي الأقوى.
بين يدي الآن العدد 782 الصادر في كانون ثاني من العام الحالي، بذات الغلاف الذي لا تخطئه العين، والخط وصورة الغلاف وعناوين المواضيع الثلاثة الأولى على عليه، ومع يقيني بأنَّ غالبية المواد المنشورة لن تضيف لمعرفتي شيئاً، بما فير ذلك الاستطلاع الطويل المصور باحترافية عالية جداً، عن هولندا(التاريخ يتعطر بالزهور)اللهم إلا من موادها العلمية إلا أنني أجدُ نفسي مجبراً على الاحتفاظ بالعدد هذا، وتصفحه، والتمتع بقراءته، وتلمس المفاجأة في الصفحة هذه أو تلك، هناك شيءٌ لا اريد التفريط به، هو جزء من طفولة معرفية أو ماض مازال قائماً، أو مفاخرة زملاء من القراء التقليديين، الذين سيفاجئون به في زيارتهم لي، أنا الذي يتعمد نثر المجلات والصحف في زوايا البيت وفي غرفة الضيافة، وقد يكون الامر ابعد من ذلك، فهو حاجة نفسية لم أحسم أمرها بعد.
لا يختلف اثنان على أنَّ المجلة تستقي الكثير من مادتها من آخر الإصدارات العالمية، وهي تعنى أشدَّ العناية بما تقدمه في مشروعها الذي اختطته فكرياً وثقافياً، وتريد أن تحتفظ بقوتها وسيطرتها على القارئ مدى أطول، فهي تدافع عن شيخوختها قدر ما تستطيع، وتدرك إدارتها المشاكل التي أدت ببعض المطبوعات العربية الى التوقف، في تراجعت الحاجة فيه الى المطبوع الورقي، لكنني، أعتقدُ بأنَّ جيلاً من القراء العرب مازال يصرُّ على اقتناء أعدادها كل نهاية شهر، لا لمعرفة أكثر إنّما لأنها باتت جزءاً من تكوين العائلة، فهي أكبر من مجلة تقرأ، وأدنى من حاجة لا تدفعك الرغبة الى أخذها. هي السحر الذي يجذبنا دونما تفكير فيه.