TOP

جريدة المدى > عام > د. عقيل مهدي ودراما السيرة الافتراضية

د. عقيل مهدي ودراما السيرة الافتراضية

نشر في: 20 أكتوبر, 2024: 12:02 ص

فاضل ثامر
يواصل الاستاذ الدكتور عقيل مهدي في مسرحيته الجديدة " الاديب مقيداً وطليقاً"الحفر المعرفي الدرامي في حقل أبتكره شخصياً في التأليف المسرحي في العراق اختص به، وأعني به فن السيرة الافتراضية، وهو فن درامي حديث، معروف عالمياً Virtual Biography يهتم بالتعريف بالشخصيات السياسية والتاريخية والعالمية والثقافية، وتقديمها بشكل خاص للأطفال والأحداث بصورة مبسطة وشيقة.
ويعتمد بناء السيرة الافتراضية على النقاط العلامات الدالة على الشخصية وطريقة تفكيرها وسلوكها اليومي، ونشاطها العلمي والثقافي. لكن الكاتب لا يتوقف عند هذه المعطيات التي يقدمها الواقع أو التاريخ، بل يعتمد من خلال التخييل لبناء شخصية إفتراضية، قابلة للحياة والتواصل مع الآخرين، وهذه الشخصية، وان بدت منذ البداية مجرد دال فارغ، لكن هذا الدال سرعان ما يمتلئ بالبيانات والحقائق والمعلومات والعلاقات التي تفرزها حركة الشخصية على المستويين الواقعي والافتراضي.
ويمكن أن نلاحظ أن الدكتور عقيل مهدي يزاوج في مشروعه هذا بين الدرامي والسردي والتاريخي والتسجيلي، ويخرج بتوليفة كتابية وبصيغة جديدة، هي ما يطلق عليه السيرة الافتراضية. وعلى الرغم من اعتماد المؤلف هنا على المستوى السردي في تقديم الشخصية الافتراضية لكنه لا يقف عند منطقة السرد، بل سرعان ما ينتقل الى عالم درامي حقيقي تتحرك فيه الشخصية الافتراضية درامياً من خلال عناصر الصراع والحوار والموقف الفكري، فنجد هذه الشخصيات غالباً ما تشتبك بصراعات فكرية وثقافية تدافع فيها عن منظوراتها التنويرية، ونحاكم بعقلانية المواقف الظلامية والرجعية المتطرفة.
ويبدو نص السيرة الافتراضية مزيجاً من فن المونودراما والدراما التقليدية، اذ نجد الشخصية الافتراضية، وهي تقدم مرافعاتها للدفاع عن قضيتها ضد آخر افتراضي. لكن عناصر الدراما التقليدية سرعان ما تهيمن على نص السيرة الإفتراضية، فنجد صراعاً وحركة وأفعالاً وانشغالات تسيطر على الفضاء الدرامي.
وقد سبق للدكتور عقيل مهدي وأن قدم عدداً من " السير الافتراضية" لمفكرين وكتاب ومناضلين عراقيين أمثال الشاعر بدر شاكر السياب وعالم الاجتماع علي الوردي، ويوسف العاني والجواهري وحقي الشبلي وغيرهم.
وسبق لي وأن أشرت في قراءة سابقة الى ان هذا الضرب من التأليف الدرامي يسمى أحياناً بالسيرة البيوغورافية الممسرحة Dramatized Biography، كما تعمد اللغة السينمائية الى تطوير هذا اللون من السيرة الافتراضية بما يسمى بالتصوير السينمائي السيري،يسمى أحياناً بالروايات التصويرية، والتي يمكن ترجمتها بالروايات التخطيطية أو الكتابية Graphic Novels، كما يمكن اعتماد البنية الصوتية الأجنبية فنقول الروايات الغرافيكية.
في مسرحيته الجديدة" الأديب مقيداً وطليقاً" يستحضر المؤلف عدداً من الرموز الثقافية منهم: فاضل ثامر ومظفر النواب وياسين النصير ود. عناد غزوان. وربما يحيلنا عنوان المسرحية الى مسرحية، الشاعر الانكليزي بيرسي شيللي المعروفة " برومثيوس مقيداً"، وبتناص مع اسم مسرحية الشاعر اليوناني اسخيلوس الموسومة " برومثيوس مقيداً" والمكتوبة بحوالي ثلاثة قرون من قبل الميلاد، وهي تعتمد أساساًعن اسطورة برمثيوس ايضاً٠
وتتكون المسرحية الافتراضية هذه من فصلين، الفصل الاول يحمل عنوان "الاديب مقيداً" أما الفصل الثاني فيحمل عنوان "الاديب طليقاً". يستهل المؤلف الفصل الاول بمشهد داخل غرفة التحقيق في احدى دوائر الأمن يتعرض فيه الشخصية الافتراضية (فاضل) الى صنوف من االتعذيب والضرب بالقرباج، مما سبب له عاهة مستديمة في أذنه بسبب ضربة قوية عليها أدت الى نزف شديد وطنين في الأذن.
ويبدو رجل الأمن (جبارة) المسؤول عن عملية التعذيب تحت اشراف قيادة الحرس القومي في المدينة، وهو يقوم بأحراق كتب المعتقل أمام ناظريه. وعندما يعبر المعتقل عن احتجاجه، يجيب (جبارة) بسخرية" لو كان القرار بيدي لفضلت حرق صاحبها اولاً."
وينتقل المؤلف الى مشهد جديد، في مكان آخر، هو مستشفى المدينة، حيث يعرض الطبيب على جبارة ان يقدم له حذاءه وهو بمقياس كبير ونادر مقابل الكف عن تعذيب المعتقل، حيث يوافق جبارة على هذا الاتفاق، لأن مقاس حذائه كبير وغير متوفر في محلات بيع الاحذية، وأتفق معه أن يمثل عملية التعذيب والضرب صوتياً، على أن يصرخ المعتقل بصوت عالٍ لكي لا يتهم بالتواطؤ والتقصير.
وينتقل المؤلف ثانية الى سجن (نقرة السلمان) حيث نلتقي بالشاعر مظفر النواب، والمحقق يهدده بأفانين العذاب، فيكون جواب الشاعر مظفر النواب صارخاً:
" كلانا سيذهب الآن أو غداً.. لكن أحلام الناس بالعدالة باقية ما بقي الشعب."
ثم يقرأ مظفر النواب مقطعاً من قصيدته "البراءة" رداً على إغراءات المحقق، ويواصل السجينان صمودهما على الرغم من صنوف التعذيب التي يمارسا المحقق ضدهما.
وينتقل المؤلف في الفصل الثاني الموسوم " الاديب طليقاً" الى مشهد جديد افتراضي، يكون فيه السجين فاضل طليقاً، وقد خرج الشاعر مظفر النواب للتو من النفق الذي حفره مع رفاقه في سجن الحلة، الى فضاء الحرية، ملتحقاً بالمقاومة المسلحة في أهوار العراق، حيث نجد أنفسنا في مشهد داخل قاعة اتحاد الأدباء يتلو فيها فاضل رسالة الشاعر مظفر الى الشاعر الفريد سمعان،:
" اناشدكم بأن تدافعوا عن اتحادكم العريق ببسالة، فالاتحاد آخر حصن تبقى لنا في زمن الإحتلال."
وفي مقابلة إفتراضية يتىحدث فيها مظفر عن نفسه وسيرته قائلاً:
" ان وجودي الآن في اتحاد الأدباء أشرف من وجودي في أي مكان آخر، ولأني شاعراً مثلكم كنت قد نحتّ في صخر القصيدة العمودية، وشكلت بطين الشعر الشعبي أجمل قصائدي."
وفي قاعة اتحاد الأدباء، يدير الناقد ياسين النصير حواراًَ إفتراضياً مع زميله الناقد (فاضل).
ويختتم المؤلف مسرحيته هذه بالمشهد الأخير الذي يتحدث فيه فاضل عن خلاصة تجربته الثقافية، وكيف انه تمنى أن يمتلك شجاعة سقراط، ويتناول كأساً من السم احتجاجاً على غزو الدكتاتور للشقيقة دولة الكويت. ويختتم (فاضل) الحفل بالقول أنه يتشرف بتسنمه رئاسة اتحاد الادباء،ويستهل نشاطه بتوجيه رسالة بالانكليزية يخاطب فيها ضمائر المثقفين في العالم ويضعهم أمام مسؤولياتهم الاخلاقية للدفاع عن كرامة الانسان وحرية التعبير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

روائيون ونقاد: رواية التاريخ تراهن على المعيش ومحكي التاريخ على فرضية أن المصادر التاريخية مصادر سردية

أربعون عاماً من تاريخ السوريالية

العمل الدؤوب والمثابر في سيرة جان لوك غودار..

قبل فوزها بجائزة نوبل "هان كانغ" كانت في القائمة السوداء

هل يمكنُ أن يخلو عالمُنا حقاً من الصراع العنيف؟

مقالات ذات صلة

في تأسيس القواعد السردية
عام

في تأسيس القواعد السردية

د. نادية هناويلا يتحقق تأسيس بناء فني أو ابتداع نهج أسلوبي أو استيلاد جنس أدبي ما لم تكن جدته حقيقية ومتقدمة، فلا يسبقها سابق؛ مشافهة أو تدوينا أو ترجمة. والأديب المؤسِس هو الذي يتبعه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram