د. محمد حسين الرفاعي
ضمن فرضيات تفسيريَّةٍ فاهِمَة، هي تحيا وتعيد بناء ذاتها من تحت القصف، ومعاينة أحوال نازحين والمشردين، في مواجهة الموت على نحو وجودي عميق؛ هذه المواجهة التي كنتُ قد جرَّبتها ببغداد في الفترة من عام 2003 إلى عام 2008. أرجو أن تفتح هذه الفرضيات أفق التفكير معًا من جديد، في ما بيننا. وأنا لازلت أثق بالعقل الشيعي المتعقل العقلانيّ؛ الذي يتوفَّر على كل إمكانات الوجود في العالَم، على نحو جديد، في كلِّ مرة.
أقول ذلك، وأعرف أن ثَمَّةَ ردود ستأتي من الجالسين على كراسي باردة. لا ضير. ما أضعه هنا، هو نتاج تفكير بواقع ومأساة إنسانية، اِستغرق وقت طويل.
1ـ لا تُبنى الدول بالتهريج والثرثرة والاِنفعالات العاطفية. ما يبني الدول، على نحو حديث، وفي معناه الأصلي، هو المعرفة الفلسفيَّة والعلمية الحديثة، وما بعد الحديثة. وبخاصة في عصر السايبر، والذكاء الاِصطناعي هذا. بعبارة أخرى، ما يبني الاِقتصاد، والثقافة، والسياسة، هو المعرفة العِلميَّة العالَميَّة، أوَّلاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ. هذه الثلاثة تبني المجتمع، والإنسان فيه، وبالتالي هي تصنع الدولة، وتقوِّمها.
2ـ أفكار جيل الأجداد والآباء، في أفضل الأحوال، هي نتيجة ونتاج لشروط موضوعيَّة، وإمكانات ذاتية، لحياتهم وبتجربتهم، التي يمكن أن تكون مصدرًا لحياة روحية وعاطفية؛ ولكنها، تفشل، كما هي فشلت، فشلاً ذريعًا في مواكبة العصر، وفهم معادلاته، وبناء المجتمع، والإنسان فيه، وبالتالي بناء الدولة. لماذا؟ لأنَّ الذكاء الاِصطناعي، على الصعيد العالمي، تم تأسيسه في العامّ 1956 – بأبحاث العالِم "جون مكارثي"، بفرضية علميَّة بسيطة قامت على التَّساؤل الآتي: كيف يمكن تقليدُ سلوكِ البشرِ، ومحاكاتُه؟ فلماذا وكيف لا نجد كتابًا واحدًا حتَّى في اللسان العربيّ، في جيل الأجداد والآباء، عن هذا الميدان الدقيق والمهم، في الفكر العربيّ كله جمعًا مجموعًا إلاّ قَبلَ خمس سنوات؟ ولم تتوفَّر الكتب ذي إلاّ في السنوات الخمس الأخيرة؟
3ـ باِعتبار أن الأبحاث، ونتائجها في هذا المجال، تتميز بسرية تامة، ففي الغالب، لا يُسمح بنشرها، ونتائجها إلاَّ بعد 30 عامًا تقريبًا من قبولها كنظريات علميَّة. هذا بروتوكول علمي متفقٌ عليه في الآكاديميات العالَميَّة. (يمكن ملاحظة ذلك عَبرَ التعامل مع الطلاب المتميزين في علوم التكنولوجيا في بلدان العرب والغرب من قِبَلِ السلطات العالَميَّة- البعض منهم لا يُعرف عنهم أي شيء لفترة زمنية طويلة. لماذا وكيف؟ لا يمكن لأحد أن يعرف).
4ـ وبالفعل، بعد ثلاثينَ عامًا تقريبًا، أتى "كوهين" بنظرية الشبكة العصبية Neural Network القادرة على تعليم نفسها بنفسها، عَبرَ فهم الأخطاء، وتشخيصها، وإعادة تصحيحها؛ كي تُصبِح الآلة، بعد جهد جهيد، من تلقاء نفسها، أذكى من العقل البشري. في وقتها سميت شبكته بـ Back Propagation. (قَبلَ هذا العالِم، نجد بعض المحاولات المتواضعة من بعض الباحثين والعلماء كـ Werbos, Rumelhart, Hinton، الذين لا نعرف عنهم شيئًا، ولا يمكن الحصول على معرفة عنهم عَبرَ الغوغل.
5ـ ثورة "كوهين" في الذكاء الاِصطناعي كان لها ثلاث نتائج على أقل تقدير:
Aـ أولاً: فتح الإمكانات الموضوعيَّة للتفكير بقضايا كانت، قبله، مستحيلة، أو هي، على أقل تقدير، كانت تصنف كمسائل علميَّة لا حل لها. مثلاً: محاكاة عمل الخلايا الجذعية، وحتى التعديل عليها، أو التفكير بأسلحة ذكية قادرة على العمل من دون تدخل بشري، أو إنتاج أدوات الإنتاج الذكية التي لا تتطلَّب تدخُّلاً بشريَّاً. ..وإلخ، التي كانت قَبلَ "كوهين"، مستحيلة.
b.وثانيًا: لأول مرة تم التفكير باِحتلال السماء بكاميرا طائرة، متوفرة على تقنية التمايز؛ كانت مهمتها، في وقتها، تمييز الأشياء والأشخاص عن بعضهم البعض، فقط، ضمن ما تمت تسميته Image Recognition by back propagation network. وبعد نجاحها اِستخدمت لأول مرة في كاميرات الدبابات آبرامز M1، وبعد ذلك في إشارات المرور الذكية؛ ومِنْ ثَمَّ في UAV: F450, 1000kv. (يمكن مراجعة التقرير العلمي لاِغتيال الإرهابي "أبو مصعب الزرقاوي").
Cـ ثالثًا: أصبح "ما هو معجزة عند الإنسان العادي، ممكنًا عند العلماء: علماء الذكاء الاِصطناعي" وهذا تعبير لأحد الفلاسفة في هذا الميدان قد نسيت اِسمه.
6ـ قلت ذلك كي يكون مدخلاً لفهم ما يحصل في هذه الحرب. وللتفكير معًا، (أي أن نفكر أنا والمعنيون على نحو إنساني واخلاقي بالعراق، والمنطقة، المسؤولون تجاه وجودهم ووجود الآخر، وليس المدعين أو المتغطرسين والمتكبرين والمغرورين من جيلي أو جيل الآباء والأجداد، الذين لا أجد غير تجاهلهم أي رد يليق بي وبهم؛ البعض منهم لا يعجبه العجب وبكل وقاحة يتمسخر بنفسه وبوجوده الهش حينما يسمع كلام الآخر المختلف عنه؛ كأنه كاشف البنيسيلين)، بثلاثة أشياء دفعة واحدة:
a.ما الذي يمكننا أن نفعله، في العراق، في مواجهة ذكاء اِصطناعيٍّ تسيطر عليه أمريكا بشكل شبه كامل؟ وفي رأس حربتها العدو الصهيوني؟
B.هل يمكن، عَبرَ الشعارات التعبوية والآيديولوجية، أن نواجه أسلحة ذكية تتوفَّر على إمكان التمييز والتشخيص، والوصول إلى أعمق أعماق الأرض، و ممارسة الإبادة في المعنى الحرفي للكلمة؟
c. أو أن نتعامل بشكل أذكى، أي أن نبني خطابًا جديدًا نتوجه به إلى العالَم، ونعتبر أنفسنا جزءًا منه؟
7ـ أقول، في المسألة الأولى، أنَّه لا يمكن، بل أقول بضرس قاطع أنَّه لا يمكن، أن نواجه العالَم إلاَّ بذكاء اِصطناعي خاصّ بنا، يتوفَّر على كل إمكانات ما يتوفَّر عليه الذكاء الاِصطناعي العالَمي. وهذا يواجه اِستحالة منطقيَّة عقلانية واضحة وصريحة. لماذا؟ لأنَّ المواد الخام الأوَّلِيَّة للذكاء الاِصطناعي، أي التقنيات والوسائل والأساليب التي من شأنه، والعلماء والفلاسفة في هذا المجال، في البرمجيات والمواد المطلوبة لصنع ما تنتجه البرمجيات، لا تتوفَّر، وليس مسموحًا لها أن تتوفَّر، في بلداننا العربيَّة، إلاّ بعد 30 سنة تقريبًا من اِكتشافها. أين توجد إذن؟ إنَّها لا يمكن التوفُّر عليها إلاّ من خلال وحدة الصين، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، وأمريكا. أقول وحدة هذه البلدان- بعد تجربة مريرة وموجعة في هذا الاِختصاص، قَبلَ أن أختصَّ في العلوم الاِجتماعية- وليس التعامل مع بلد منها دون الآخر. بمعنى مباشر: تصنع قطعة منها في الصين, والأخرى في روسيا، والأخرى في أمريكا، والأخرى في فرنسا، والأخرى في بريطانيا؛ وباِجتماع هذه القطع ووحدتها نكون أمام ما نحن عليه من سلع الذكاء الاِصطناعي. ولكنها سلع اِستهلاكية، وهي سلع اِنتاجية أيضًا. وإنَّها في جملتها في خدمة العدو الصهيوني. هذه من الحقائق، في التقنية ما بعد الـ 1948، بديهية. بل بصراحة نتعامل معها كأساس وجودي للتقنية بالأساس.
8ـ في المسألة الثَّانية، يجب أن نتجاوز المقولة الساذجة لبعض الصحفين والإعلاميين والمحللين الاِستراتيجيين: "التكنولوجيا في مواجهة الآيديولوجيا"… بل علينا التوقف عند هذا: وراء الذكاء الاِصطناعي، وفي أساسها، آيديولوجيا متوحشة قاتلة مجرمة تتسم بقساوة الشرِّ كله، لا ترحم؛ وهي على الضِّدِّ مِنْ الإنسان والإنسانية، بالتأكيد؛ يمكنني أن أقول أنني أرى توحشها كل يوم بأم عيني في "بيروت"، و"صيدا". ويمكن أن يتعرف عليها القارئ من مقدمة "التلمود البابلي"؛ التي ببساطة "تعتبر كل من هو غير يهودي أدنى من الإنسان"؛ معنى ذلك أننا أمام تشريع ديني واضح لممارسة القتل والإجرام والوحشية. الشرعنة هذه كانت، منذ 1948، أساسًا لعالَم جديد لم نفهمه إلى الآن. (التيارات القومية واليسارية، والإسلامية، وحتى الليبرالية والعلمانية الملتزمة بالقضية، كانت "تخوط بصف الإستكان"). والشعارات التعبوية والآيديولوجية التي عندنا، نحن العرب والمسلمين، شيعة وسنة ومسيحية، لا تُقدِّمُ أي شيء تقريبًا غير تحويل الشباب، شبابنا إلى ضحايا، وقرابين في مشاريع لا ناقة لنا فيها ولا جمل. هذا ليس موقفًا سياسيَّاً أو تسجيل نقطة على أخوتي؛ لا؛ إنَّه واقعة علميَّة.
9.في المسألة الثَّالثة، أفترض أن خطابًا عالميَّاً يمكن أن ينقذنا مما نحن فيه؛ أو الأسوأ الذي نحن ذاهبون إليه، لا محالة. وهو يقوم على ركائز خمس: 1- اِقتصاد مفتوح على العالَم، (مكشوف، لا أن نخدع العالَم ببعض السرقات، أو مجاملة الشرق، على هذا النحو أو ذاك، من قِبَلِ المسؤولين الذين يظنون وهمًا أنهم أذكى من العقل العالمي الجديد: الذكاء الاِصطناعي في الاِقتصاد، والبنوك التجارية، والتحويلات،…وصولاً إلى كشف الأموال التي اِكتنزوها في بيوتهم التي سُجلت بأسمائهم، أو أسماء غيرهم… وإلخ)، 2- والاِعتماد في الدولة ومؤسساتها على رجال دولة حقيقيين ليسوا فاسدين ولا مفسدين، أقصد رجال دولة يعرفون كيف تجب مخاطبة العالَم، وأن يتجرَّدوا، قدر الإمكان، عن هويتهم الطائفية- المذهبية الضيقة، ويكون لديهم إمكانات ذاتيَّة وفهم عميق لقوانين العالَم، والإقليم، والمنطقة، والداخل، و 3- الاِعتماد على العلماء والمفكرين والفلاسفة الذين لهم باع طويل في البحث العلميّ والفلسفي، الحديث وما بعد الحديث، العالَمي، وأن يكونوا بمثابة مجلس قيادة يقع في أعلى درجة من سلم الدولة، يُقدِّمُ اِستشاراته وأفكاره وتصوراته، واِستشرافه لرجال الدولة، و 4- اِبعاد المرتزقة والمتملقين والمتحذلقين للزعماء عن أي مسؤولية في الدولة، وإدارة مؤسساتها، و 5- التركيز على مسائل حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وأسس الديموقراطية والمواطنية، والجدية والصرامة في تطبيقها، وفتح المجال أمام الشباب من الكفاءات والمتخصصين في مسك مفاصل الدولة. ويمكن أن نفكر بوحدة الشباب والشياب أيضًا. الشياب المؤدبين طبعًا؛ لا الوقحين والمدعين المأخوذين بأفكارهم البالية. أفترض أننا بهذه الطريقة نقدم صورة جديدة عن العراق للعالَم؛ يفهمه هو، أي العالَم، وبالتالي يفتح لنا إمكان أن نتحاور معه بشأنِ المصالح المشتركة؛ على نحو القوانين الدولية، والمؤسسات الاِقتصادية والسياسية العالَميَّة.
10ــ من يتصور أننا ذاهبون إلى شرق أوسط جديد، في عصر الذكاء الاِصطناعي هذا، إنَّما هو متخلف عن [التاريخانيِّ] الذي تصنعه الأحداث والوقائع الجديدة كل يوم، بل كل ساعة. إنَّنا، وأنا أكتب هذه السطور، في قلب الشرق الأوسط الجديد. لقد أصبح واقعة تاريخية قائمة برأسها. إنَّنا في قلب نمط وجودي- سياسي- مجتمعي- اِقتصادي- دبلوماسي، جديد؛ ليس لدينا، بعدُ، أو على أقل تقدير، لدى قادة بلدنا أي شيء، ليس لديهم أي شيء في المعنى الحرفي للكلمة، لأنْ ينقذوا به البلد، والمصلحة العليا في الدولة.
11ـ لكن ما هي مخرجات الحرب، ومستقبله في المنطقة؟ لا شك أنها حرب سترسم مستقبلاً لا علاقة له بالماضي، أو حتَّى بالحاضر الذي نحن فيه. إنَّه زلزال وجودي قوي. لقد قدمنا، في العشرين سنة الأخيرة، أسوأ شكل من أشكال الحكم التي يمكن أن يعرفها التاريخ؛ والتاريخ سيسجل أننا- أقصد نخبة الشيعة، النخبة السياسية، على الأقل، باِعتبار أنهم هم الموضوع الآن- لسنا، في فهم العالَم لنا، سوى مجموعة من اللصوص والسراق والإرهابيين الذين لا يستحقون الحكم؛ باِعتبار أنهم لم يتحالفوا إلاَّ مع من يفهمهم العالَمُ على أنهم إرهابيون؛ أو تم تصنيف بعضهم على هذا النحو. طبعًا هذا فهم العالَم لنا ولهم؛ ولا علاقة لي بهذا التصنيف. يمكن أن أتحفظ عليه، وإنْ يتحفظ أي قارئ عليه. لا يعمل التحفظ أي شيء تقريبًا. لست في موقع أن أقدم تبريرًا لرؤية العالَم لنا، كما ترون. العالَم يقول عنا ذلك؛ وإنه مسألة يجب أن نتوقف عندها. هذا الفهم، أي فهم المجتمع الدولي لنا، نحن الشيعة بعامَّةٍ، ونخبة الشيعة، النخبة السياسية، بخاصَّةٍ؛ يمكنه أن يلعب دورًا أساسيَّاً في أن يخرج الحكم من يد الشيعة. ويعودوا إلى أسوأ ما كانوا عليه قَبلَ 2003. على الرَّغْمِ مِنْ أنَّ المهرجين يمكن أن يكون لديهم كلام آخر، إلاَّ أنني أراني أمام هذه الحقيقة المَرَّة التي صنعتها أفعال أولئك الذين اِعتمدتُم عليهم؛ ولم يكونوا جديرين بالثقة. من أنتم؟ أنتم الشعب الذي صوَّت لهم.
12ــ العمق الطبيعي للعراق، لشيعته وسنته وكرده وأقلياته، هو العمق العربيّ؛ والبلدان العربيَّة. يمكن أن يواجه هذا الكلام بالكثير من الاِتهامات التي تعودنا، أنا ومعشر العقلانيين الوطنيين، عليها، ولم تصنع سوى الدمار، والفشل في إدارة الدول. أعني، على أقل تقدير، العراق ولبنان. ولكن، ما هو الأهم، هو أن العراق، ومن يجد مسؤولية أخلاقية أو إنسانية أو دينية أو سياسية أو روحية أو عاطفية أو فكرية أو. .. إلخ تجاهه- مثلي أنا على سبيل المثال، بكل تواضع وتقبل للآخر- عليه أن يبقى، أي العراق، مستقلاً ذا سيادة بجيش مستقل، وجامعة (آكاديميا) عالَميَّة مستقلة، ومصنع مستقل (اِقتصاد حديث)، في تعامله مع كل المشاريع التوسعية، أو تلك التي تريد أن تكون كذلك. أقصد مشاريع الشرق والغرب، معًا. (طبعًا هنا أشير إلى الأخوة الإيرانيين الذين، بكل عقلانية، عليهم أن يفهموا أن عراقًا قويَّاً يمكن أن يكون لديه علاقات دبلوماسية إيجابية- متكاملة مع إيران؛ لا عدائية).
13ـ مشاريع مقاومة الآلة المتوحشة، وأعني المؤمنين الحقيقيين بها، كالقادة الشهداء، رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته، الذين قدموا كل شيء في سبيلها، على الرَّغْمِ مِنْ أنَّها مشاريع أصيلة وأخلاقية إنسانية عظيمة، ولا شك أنها مباركة، وهي يمكن أن تبرر نفسها بسهولة لأي إنسان لديه أدنى مستوى من الإنسانية؛ إلاّ أنها لا يمكن أن تجد لها مكانًا، في العراق، والمنطقة، في المسقبل القريب؛ مستقبل سيطرة العقل العالمي الجديد: الذكاء الاِصطناعي، والسايبر. إنَّ التمنيات والآمال هنا إنَّما هي تبقى من نتاج وصنع الخيال الذي يمكن أن يستمر اللعب عليها؛ لكن مؤقتًا وعلى نحو عابر؛ لا أكثر. عابر ومؤقت لأنَّ العالَم يمكن أن يُخدع لفترة ما، لكن بالتأكيد لا يبقى منخدعًا لفترة طويلة.
14ـ قلت هذا الكلام بعد أحداث تشرين 2019 للكثير من السياسيين، والمسؤولين، والزعماء، ورجال الدِّين المؤثرين في السياسة، في بغداد، والنجف، وكربلاء، وأربيل، والسليمانية، والبصرة، وقم وطهران، وبيروت، وصور، وصيدا، وبعلبك. من ضمنهم من كانوا على رأس الدولة، أو في الخط الأول السياسي، أو الديني. وكنت، من خلال متابعتي لأبحاث ومقالات ودراسات العلم الحديث، والفلسفة ما بعد الحديثة، متأكِّدًا أننا سوف نصل إلى هنا؛ وأسوأ مما نحن عليه الآن. لكنَّ المتغطرسين والمغرورين والمتكبرين والنرجسيين من جيل الأجداد والآباء لم يسمعوا صوت العالَميَّة… وسوف لا يسمعونه إلاَّ متى أتى إلى مسامعهم على نحو صوت الاِنفجارات والغارات والدمار وتشرد الأبرياء ونزوح المدنيين منَّا؛ منَّا نحن أنفسنا. إنَّ ما نحن عليه الآن، إنَّما هو ليس متوقعًا فحسبُ؛ بل إنَّ أي شيء آخر غير ذلك هو كان، وبقيَ، خارجَ التوقع العقلانيّ لخطاب لا يعرف غير تكرار شعارات مضى عليها الزمن؛ لا تبرع إلاّ في صناعة الأعداء.
15ــ لم يبقَ أمامنا، بعد كل ذا، إلاَّ اِحتمالين، إمَّا: الأول: أن نبني دولة، ونكون واضحين مكشوفين أمام العالَم وأن نجعل من مصلحة العراق العليا فوق كل المصالح الأخرى، وألاَّ نعتمد في منهج البناء إلاّ على المتخصصين الحقيقيين، لا أصحاب الشهادات المُشتراة من الدكاكين الآكاديمية، وأن نثبت للعالَم أننا نتوفر على رجال دولة يمكنهم أن يضطلعوا بمسؤولياتهم تجاه الوطن والعالَم بتكاملٍ بينهما، وإمَّا: الثَّاني: أنْ يتدخل المجتمع الدولي بكل قوة وصرامة، من خلال الآلة المتوحشة، لتغيير جذري، على نحو بِنيويٍّ، في العراق، لا سمح الله.
16ـ تجربة الإسلام السياسي الشيعي في العراق فاشلة. وعلينا أن نعترف بذلك؛ لكي ننطلق بتجربة أخرى جديدة متصالحة مع الإسلام، والمرجعية، والتشيُّع، (لا أن تستغلها، وتوظِّفها في مصالح أخرى)، والآخر، والعالَم. هل نحن أحرار أمام اِختيار هذا من عدمه؟ لا، لسنا أحرارًا. نحن مجبرون عليه. لأنَّ السماء بِيد من تصنفهم أخلاقُنا ودينُنا وإيمانُنا وإنسانيتُنا وطائفتُنا ومذهبُنا ومرجعيَّتُنا، على أنهم أعداء. وباِعتبار أن اِحتلال السماء أصبح واقع حال؛ علينا أن نفكر بأنفسنا، بأنفسنا فقط لا غير. هل هذا يعني قطع العلاقات مع الشرق والعالَم؟ لا. إنَّه يعني الاِلتزام الصارم ببراغماتية وطنية جديدة.
17ــ إذا، وفقط إذا: 1- اِستطعنا أن نخرج العراق، أو أن نحيِّدَهُ عن أي صراع في المنطقة، والعالَم؛ و 2- أن نجعل من المجتمع العراقي مجتمعًا متصالحًا مع ذاته، و 3- أن نفسح المجال أمام الشباب المتخصص، المتخصص بالاِختصاصات العالَميَّة الحديثة وما بعد الحديثة، ولا شيء آخر، و 4- أن نجد تأويلاً لذاتِ أنفسنا العميقة، وهذا من اِختصاص رجال دين، وفلاسفة دين عقلانيين، كوالدي الفيلسوف د. عبدالجبار الرفاعي، اِستطاعوا ويستطيعون أن ينتجوا خطابًا دينيَّاً متصالحًا مع ذاتِ أنفسنا العميقة، وتراثنا، وهويتنا، ويعرف لغة العالَميَّة، وبالتالي يفتح أفق فهمنا على العالَم، وفهم العالَم الذي نحن فيه علينا، و 5- أن نتوقف عن مجاملة أي مشروع توسُّعي لا يعترف بالأوطان وحدودها الجغرافية، وخصوصيتها التاريخيَّة- والثقافية، و 6- أن ندفع الأنانيين الذين لا يعملوا إلاّ لصالح أنفسهم، أو عائلتهم، أو جماعتهم، إلى عزلتهم، وأن نخرجهم من دوائر الدولة؛. .. إذا اِستطعنا على كل ذلك، وكان في مستطاعنا أن نجد سبيلاً له، يمكننا أن نضع العراق أمام مستقبل آخر جديد، يحافظ على سيادته، واِستقلاله، ويدفع به نحو العالَميَّة.