ستار كاووش
ما أن وضعتُ قدمي في مدينة فيينا، حتى بدأتُ أفكر بمرسم غوستاف كليمت الذي يقع في ضاحية هيزتنخ خارج فيينا. قمتُ بجولة صغيرة ثم تبضعتُ بعض الاشياء التي أحتاجها، وانتظرت حتى جاء الصباح، لأنطلق نحو محطة القطار الرئيسية وانطلقتُ بالمترو نحو محطة (أنتر سانك فيت)، وهناك قطعت شارعين صغيرين تحيط بهما البيوت القديمة الفاخرة، حتى دخلتُ شارع (فيلدمولخاسه) وهناك وجدتُ نفسي واقفاً أمام بوابة الفيلا رقم احدى عشر، وهي بيتاً صيفياً مبنياً على طراز (نيو باروك) جعله كليمت مرسماً له. وضعت يدي على البوابة الحديدية التي كان غوستاف يتحسسها كل يوم، وكأني أضع يدي بيد الاستاذ العظيم. ثم قطعتُ الممر الذي يتوسط الحديقة الواسعة المليئة بالزهور وأنا أستعيد لوحاته التي رسمها هنا، كل شيء يشير الى الفنان حيث تتعاقب الفصول، وكل زهرة تنبت هنا كأنها تعود من جديد لتعانق روح هذا الفنان وتُعطر فنه، وكل شجرة تمد أغصانها كأنها تُحَيّي هذا العالم الساحر الذي شَيَّدَهُ كليمت. لكن من أين أبدأ وكل زاوية هنا تسحبني عنوة نحو جمال الرسم والتاريخ والفن العظيم؟ يا لهذه اللحظة التاريخية التي جعلتني أقف هنا، لكن عليَّ أولاً أن أقطع تذكرة الدخول لأعيش بين تفاصيل رسامي المفضل.
عند صالة التذاكر الصغيرة ناولني الرجل الأشقر الذي يتحدث الألمانية والانجليزية التذكرة، بعد أن قدم لي بعض الارشادات الضرورية التي تتعلق بتفاصيل المكان. قرب الباب كان كليمت واقفاً، وأقصد نصب كليمت المنفذ بسلك حديدي وهو ينتصب برداءهِ الطويل وكأنه يستقبل الزائرين بطريقة ودودة. كانت الصالة الاولى مليئة يالرسومات اليابانية التي أدخلها كليمت في لوحاته واستلهم منها الكثير من الألوان والتفاصيل والتقنيات، وخاصة تلك التي إستخدمها في خلفيات لوحاته الواسعة. مضيتُ الى الداخل فإنفتحتْ أمامي قاعة جميلة مليئة بتخطيطاته ودراساته التي تحولت الى لوحات مذهلة، وفي زاوية منها عُرضتْ رسائله والبطاقات البريدية التي كان يرسلها الى صديقته إيميلي فلوخ، وقد حملتْ صور بعض المدن التي كان يزورها. هناك ممر طويل يفصل بعض القاعات عن بعضها، إمتلأ بالكثير من صور كليمت وتفاصيل حياته ويومياته، تأملتُ صور الفنان التي صورها في المرسم أو في أماكن مختلفة في فيينا، قبلَ أن أصل الى صالة فيها صور لخمسة عشر لوحة من لوحات كليمت التي لم تعد موجودة بعد أن سرقها النازيون سنة ١٩٤٢ وخبؤوها في قلعة إيمندورف ثم أحرقوها عند نهاية الحرب سنة ١٩٤٥، لذا لم يتبقَ من اللوحات سوى هذه الصور بالأسود والابيض والتي صورتها كلها بإعتبارها حلقة مفقودة من إنجاز كليمت.
في نهاية الطابق الأرضي وصلت اخيراًَ الى المرسم الذي أنتج لنا كل هذه الروائع، وهناك مازالت آخر لوحة غير مكتملة تتكيء على مسند الرسم، وكرسي الفنان فارغاً، وبمحاذاة المسند هناك طاولة التخطيطات التي كان ينفذ فوقها دراساته، فيما إنتصبَ على يمين مسند الرسم سرير واسع يشبه المنصة بحجم ثلاثة أمتار مربعة تقريباً، مغطى بشرشف مقلم باللونين الأسود والأبيض، وهو المكان الذي كان مخصصاً للموديلات والنساء الجميلات اللواتي رسمهن كليمت. وعلى الجانب الأيسر من مسند الرسم امتدت نافذة واسعة أُسدلتْ عليها ستارة شفافة مازالت تعكس ضوءً ناعماً على لوحة الفنان الأخيرة. سُلَّمٌ طويل يؤدي الى الطابق الثاني من الفيلا، وهناك عدد من الصالات المليئة بالكثير من الكتب والمطبوعات التي تتناول أعمال كليمت وحياته، كذلك الكثير من التذكارات التي يمكن للزائرين اقتناءها.
بعد جولتي داخل المرسم (الفيلا)، خرجتُ نحو الحديقة التي كان كليمت يعتني بها في تلك الأيام البعيدة، وجلستُ قليلاً على الأريكة التي كان الفنان يجلس عليها أوقات الاستراحة ويختار الزهور التي سوف يرسمها في لوحاته الجديدة. بعد جولة قصيرة في الحديقة الأمامية، إنتقلتُ نحو الحديقة الخلفية لهذا المرسم الذي يليق برسام مثل كليمت. كانت الحديقة أكبر مما توقعتها وابتدأت بشرفة كبيرة خلف البيت، يحيطها من الجانبين سُلَّمان واسعان متناغمان وكإنهما قطعة موسيقية باهرة. تستند الشرفة على عمودين تطل بينهما نافذة المرسم التي تفصله عن الحديقة. ها أنا أتجول هنا صحبة خيال الرسام المذهل بعد أن تطلعتُ الى لوحاته وما تركه لنا من جمال. في نهاية الجولة خطوتُ نحو المقهى الصغيرة التي أخذت مكانها وسط حديقة كليمت، والتي لم تكن تتسع سوى لبضعة أشخاص، وكأنها تَجَمُّع للاصدقاء أو لأفراد عائلة واحدة، ومن يزور هذا المكان يشعر حقاً بأنه جزء من عائلة هذا الرسام الفريد. جلست بمحاذاة شاب ياباني كان يتصفح مع صديقته كتاباً عن كليمت، وطلبتُ فنجان قهوة وقطعة من (ساخَر تورته)، وهو الكعك الذي تشتهر به فيينا ويكون محشواً بالمشمش والشوكولاته عادة. وفكرت أن الفن الكبير هو الذي يجعل العالم صغيراً ويجمع الناس بهذه الطريقة، كما فعل كليمت وجمعنا من أماكن متباعدة في هذه البقعة الصغيرة والجميلة والخالدة. مرَّ بعض الوقت قبلَ أن أُحَيِّي فتاة المقهى التي ودعتني بإبتسامة دافئة أثناء خروجي، وقبل أن أضع خطواتي في الشارع، أمسكتُ مقبض البوابة الحديدية من جديد، وكأني أُوَّدِع صديقاً عظيماً، هكذا حسبتهُ رغم أني لم ألتقيه بطبيعة الحال، لكني التقيتُ كثيراً بلوحاته التي سحرتني وكانت أحد الأسباب الرئيسية التي جعلتني أختار طريق الرسم.