TOP

جريدة المدى > عام > العاطفة والذكاء الاصطناعي

العاطفة والذكاء الاصطناعي

نشر في: 27 أكتوبر, 2024: 12:02 ص

د. نادية هناوي
تحيَّز المذهب الرومانيتكي للعاطفة وأولاها اهتماما كبيرا، متأثرا في تشكيل منظوراته الجمالية بالفلسفات القديمة، ومنها الفلسفة الأفلاطونية التي تنزع منزعا مثاليا في النظر إلى العواطف وتقدير فاعلية أثرها، وترى أن قوتها تثير المآسي وتؤدي إلى الضعف وبها يختلط العقل ويتشوش. أما الفلسفة الأرسطية فترى أن من وراء العاطفة وقوة انفعالاتها أثرا طيبا يحقق تطهيرا للذات فتتولد اللذة ومشاعر الرحمة والحب والخوف. ولهذا عدَّ أرسطو الخطأ أو الهامارتيا في المسرحية التراجيدية أصل الحكاية وجوهرها وليس جزءا منها. إذ أن للعاطفة حدودا ما أن يتعداها الإبداع حتى تنقلب إلى الضد وتصبح لا أخلاقية.
وهذا ما يُناقش اليوم وبشكل مستحدث من لدن المهتمين بالتنظير للذكاء الاصطناعي، إذ يذهب بعض منهم إلى أن موضوعة العاطفة أمر لا ينطبق على التجارب البشرية وحدها حسب، بل يشمل أيضا التجارب المنتجة بالآلات الذكية. ومن هؤلاء الباحثين كاثرين ديغنازيو ولورين كلاين في دراستهما المنشورة ضمن كتاب(الذكاء الاصطناعي النسوي: وجهات نظر نقدية حول البيانات والخوارزميات والآلات الذكية)2023 وقبل أن تدخل الباحثتان إلى موضوعة إنتاج العاطفة بالذكاء الاصطناعي، طرحتا السؤال الآتي: ماذا سيحدث إن نحن تخلينا في عملية تصوير البيانات عن ثنائية العقل والعاطفة وجعلنا التفرد للعقل وحياديته في التعلم والتذكر والاستجابة والتلقي؟
من وجهة نظرهما، يكون التخصص التقني في مجال إنتاج البيانات بأنظمة الذكاء الاصطناعي مرتبطا بالهندسة التكنولوجية وعلوم الحاسوب وأيضا بنظريات التواصل والبلاغة الأسلوبية بتاريخها العريق الذي يمتد إلى الأدبيات اليونانية المتعلقة بشفاهية فن الخطابة وفن المسرح وما يتطلبه كل فن من مكملات تتعلق بالصوت والملابس والإشارات التي تساعد في التوصيل البلاغي وتمثيل الواقع مما لا يعكسه النص المدون تحريريا. ومثلت الباحثتان بخطاطة جاكوبسون التواصلية وما تتضمنه من عناصر موزعة على محورين: أفقي نثري وشاقولي شعري، ويتوقف التوصيل البلاغي للأدب على طريقة التقاطع بين هذين المحورين. وتتحدد من خلالهما أيضا نسبة الصدق الفني في البيانات المنتجة رقميا فتتحقق الثقة ويقتنع المتلقون أن ما يشاهدونه من صور هي واقعية وتجري بطريقة موضوعية حيادية.
وتجد الباحثتان في هذه الحيادية دليلا منطقيا ضد التحيز، يؤيد ضرورة محو أي أثر بشري عاطفي من المنتج الرقمي. وتعضدان ذلك بما مالت إليه الفيلسوفات النسويات مثل ساندرا هارينغ من بحث عن مسارات بديلة نحو الحقيقة تتمثل في الموضوعية ونبذ التحيز والاستناد إلى العلمية. وتنقلان عن الطبيبة نكا غولدبرغ قولها في كتابها(النساء لسن رجالا صغارا)(إن أمراض القلب لدى النساء تتطور بشكل مختلف تماما عن الرجال وأن غالبية الدراسات العلمية التي أجريت على الرجال – ليس فقط حول أمراض القلب بل معظم الحالات الطبية- تشير إلى وجود اختلافات معيارية واضحة بين الرجال والنساء.)
وما من شك في أن الاحتجاج بالعلمية والموضوعية وعدم التحيز لا يعني أن ليس ثمة اختلافات في وجهات النظر بحسب النوع الاجتماعي والعرق والثقافة والتراث والتجارب الحياتية. أما ما تذهب إليه الباحثتان من أن تحويل البيانات الرقمية إلى تجربة حسية، يجعل ثنائية العقل / العاطفة زائفة ولا تأثير لها، فإنه يتعارض مع ما يقره علم الأعصاب التشريحي والتحليل النفسي السلوكي ونظريات القراءة والتلقي ونقد استجابة القارئ التي ترى أن التأثير العاطفي أمر حاصل وحتمي.
بيد أن الباحثتين تستندان في دعوى الزيف أعلاه إلى الأبحاث المتوارثة عن رينيه ديكارت الذي صوّر العاطفة على أنها غير مشروعة عقلانيا مع أنها موجودة وتؤثر في مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية في عالمنا، وأعظم الاكتشافات العلمية ما تولدت بفعل العقل وحده حسب، بل هي التجربة والإلهام والعاطفة أيضا. وحاولتا تبرير منظورها حول ضرورة أن تكون للعقل وحده سلطة في إنتاج البيانات الرقمية أيا كانت في شكل نصوص أدبية أو ألعاب فيديوية أو أفلام أو رسوم متحركة من خلال التمثيل بالإحصاءات التي نشرتها صحيفة واشنطن بوست حول ارتفاع مؤشر الرسم البياني لعدد الوفيات في الولايات المتحدة مما يسمى (وفيات السلاح gun Deaths) الناتجة عما تولده ألعاب الأسلحة النارية على الصعيد الرقمي (البصري) من مشاعر عنيفة ومدمرة، تؤدي على الصعيد الواقعي(الحياتي) إلى سلوك طريق الإرهاب والجريمة.
ومع ذلك، لم تستطع الباحثتان أن تنكرا أهمية العاطفة في المنتج الرقمي من خلال إشارتهما إلى حرص مصممي البيانات المهرة على تحقيق التوازن بين العرض البصري والتفاعل الحسي عاطفيا وجسديا بين الأسوياء وذوي الإعاقة. فالتصميم عملية إبداعية وهو أيضا عملية بصرية وينبغي أن تراعى فيها لوائح منظمة الصحة العالمية، وما يحتاجه الأشخاص الذي يعانون من إعاقات بصرية من بدائل تمكنهم من الوصول إلى الرسوم البيانية ولوحات المعلومات عبر نمط من التحويل الحسي للبيانات وبسط المعلومات لابتكار أداء حي لأصوات رجال ونساء، فيها تعبيرات جنوسية وحركات جسدية ونبرات لفظية، لها تأثير عاطفي في الجمهور وتؤدي إلى ردود أفعال فسيولوجية تحفز على التجاوب باستجابات حسية أكثر شمولية فلا يكون المتلقي الناظر مجرد عينين متصلتين بالدماغ، بل هو جسم كامل معقد وله مشاعر ضمن فضاء زمكاني معين. وهو أمر ينطبق على مشاهدة اللوحات التشكيلية والمناظر الطبيعية والخرائط الجغرافية والتقاويم الشهرية وغيرها من البيانات التي تحفز المشاعر وتعمل على استثارة الجسد. في إشارة إلى أن تعزيز العاطفة لا يكون من دون أن يعمل العقل بشكل فعال في عملية التواصل مع البيانات. فلا يكون المعيار - بحسب الباحثتين - ذكوريا والانحراف عنه أنثويا وإنما هي الأجساد في قدرتها على الإبصار والتفكر بعقلانية ومن ثم تكون العاطفة على سلبيتها وضرورة استبعادها مهمة وأساسية. و(بالاستناد إلى نظرية اليزابيث جروس حول النسوية، فان الشيء الذي يعد زائدا في أي نظام قد تكون في استكشافه قيمة أكثر أهمية لأنه يخبرنا بما نحاول ان نستبعده من النظام) ومع ذلك فإن اعتبار العاطفة وأثرها في الجمهور زائدا وسلبيا على مستوى تنظيم البيانات والتجسيد والتعبير والتزيين أو الزخرفة إنما هو في الحقيقة تقليل من قيمة العاطفة وتهميش ما لها به صلة وهو الانثوية. أما علاقة العاطفة بالعنف المسلح فمرتبطة بمستوى ما تعرضه البيانات من صور، تجعل العاطفة تستثار إلى أقصاها فتكون التجربة الحسية من ثم خطيرة وتخريبية كما في مثال الأسلحة النارية.
وبذلك لا يكون من أخلاقيات الإنتاج الرقمي التخلص من العاطفة، بل هو التوازن بين العقل والعاطفة في تصميم برامج وتقنيات الذكاء الاصطناعي وبما يحقق تواصلا نافعا وايجابيا تتوازن فيه قوى الإنتاج الاجتماعية سياقا وإجراء مع ما تولِّده من "اقتناع احتمالي" كما يسميه أرسطو. وأهمية الاقتناع تعني أن تكون العواطف متناسقة مع الجنس(فيمكن للشخص أن يتمسك بالرجولة ولكن لا يتفق مع طبيعة المرأة أن تكون كذلك) وما يحققه الاقتناع الاحتمالي هو التطهير catharsis فالقيمة الخلقية للانفعالات هي التي تسبب تطهير النفس من الأدران فيكون لها علاجا وصحة. هذا إلى جانب ما جاءت به كشوفات التحليل النفسي من أهمية التسامي بالعواطف فيتحقق الإحساس بالجمال الفني والجمال الطبيعي. وليس في هذا إعلاء للذكورية أو انتقاص للأنثوية إنما هي قوانين الأدب الإنساني، إذ لا يمكن اعتبار العقل عاملا بمعزل عن العاطفة كما لا يمكن تصور العاطفة عاملة بعيدا عن العقل، إنما هما معا يعملان أيا كانت الوسائط شفاهية أو تحريرية أو افتراضية وكما يقول فرانسو دي لاروشفوكو (تطفئ الريح القوية الشموع ولكنها تؤجج النار) وهو ما ينطبق على الأدب البشري مثلما ينطبق على الأدب الرقمي المنتج بوساطة آلات الذكاء الاصطناعي من ناحية ما يسببه من تطهير يحقق أغراضا ذاتية واجتماعية إنسانية وأخلاقية على مختلف المستويات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: مالر في المرآب

الحلاج شاعراً

الروائي كولم تويبين يكمل مابدأه في رواية (بروكلين)

رسائل اليخاندرو بيثارنيك وأوستروف. . حبًا لا يقاس تجاه الأدب

العاطفة والذكاء الاصطناعي

مقالات ذات صلة

نداءات كونية للعقل الفضولي
عام

نداءات كونية للعقل الفضولي

بول سي. دبليو. ديفيس*ترجمة: لطفية الدليميالقسم الأولوُلِدتُ لأكون فيزيائياً نظرياً. أعلمُ أنّ هذه القناعة تبدو عتيقة للغاية؛ غير أنّ هاجساً في نفسي جعلها أقرب إلى نداء كوني بالنسبة لي، و لم أخذل هذه الدعوة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram