صلاح نيازي
لمَ لا؟ الحلّاج شاعر مفطور وليس هذا من باب التظنّي او التوهّم. صناعته الشعرية، حاذقة. على سبيل المثال الأبيات التالية. ما هي إلا خمسة أبيات، تونق السمع، وتذكي العقول. مقطوعة شعرية اصطلاحاً أم هي يا ترى ومضة روحية، مصنوعة من كلمات مرمّزة. الأبيات متعاضدة لُحْمةً وسَدى.
مسرح القصيدة عرض البحار، بينما الراوية طافٍ على موج متلاطم يصعد وينزل على شفا التوى والهلاك.
أغرب مسرح ثابت رغم عرامته وتلاطمه. للوصول إلى سرارة هذه المقطوعة الشجاعة، واستكناه خفيّاتها الفنيّة، وأثافيها النفسية، لنتمعنْ قليلاً في هذه الأبيات.
البيت الأوّل:
ما زلتُ أطفو في بحار الهوى
يرفعني الموج وأنحطُّ
" ما زلت أطفو"، إنما وضعنا راوية القصيدة، أمام حدث ماضٍ، ما يزال جارياً. المعاناة متواصلة. الفعل أطفو إنما ينمّ عن أنّ الراوية مسلوب الإرادة. قدره ليس بيده. لا حول له. وحين ذكر" في بحار الهوى"، توسعت الصورة، بحيث بدا الراوية أكثر ضؤولة بالمقارنة.
عجز البيت، يرفعني الموج وانحطّ"، تأكيد آخر على ان راوية القصيدة مسلوب من أية حركة ذاتية.
الفعل يرفعني يوحي بأمواج عارمة، قذفته عالياً، ولكنه انحط لوحده. وظف الشاعر بحذق الفعل انحطّ، فحرف الطاء يوحي بارتطام. تشديد الطاء زاد من تشديد الصوت. بالإضافة إنه فعل مطاوع وكأنه وقع بقوّة غيبية.
مما لا مرية فيه ان مفاتن هذه المقطوعة تتجسد أولاً بالوزن الشعري الذي اختاره الشاعر أي أحد صيغ مجزوء السريع: " مُسْتَفعلنْ مستفعلن فِعْلُنْ"، و وثانياً: القافية المشددة (أربع مرات في خمسة أبيات).
لا بدّ من إضافة تقنية ثالثة هي التكرار. كما سنرى.
البيت الثاني:
فتارة يرفعني موجها
وتارة أهوي وانغطّ
مع أنّ الصورة تكررت في الظاهر، إلاّ ان الفعل أنغط بات أعمق وأخطر من الفعل أنحطّ. لا محيص.
التكرار إن هو تكرار لفظة، أو مصطلح، يلجأ إليه المتصوفة في مواجداتهم، لتخدير الحواس مرة بعد مرة فتختلط ويغيب فيها الإنسان عن الوعي. الغيبوبة. فناء صوفي(خلاص الإنسان من نزعاته الخاصة) وانصهار بالقوة الغيبية.
البيت الثالث:
حتى إذا صيّرني في الهوى
الى بحار ما لها شطُّ
كذا إذن تطبق الحيرة على راوية القصيدة. فالبحار اتسعت ما دامت بلا شطآن، ما من منجى، حيثما التفتَ.
الراوية يواجه مصيره وحيداً.
البيت الرابع:
ناديت يا لم ابح باسمه
ولم أخنه في الهوى قطّ
لا يخفى ما لتوقيت الفعل ناديت هنا من أهمية من وجوه عدّة. فهو يعني الاستغاثة. ولكنْ بمَنْ؟
ولمَ لمْ يبُحْ باسمه؟ هل هذه نوع من التقية المذهبية، كما يعتقد ماسينيون؟ لماذا البوح باسمه خيانة؟
البيت الخامس
تقيك نفسي السوء من حاكم
ما كان هذا بيننا شرط
مرّة واحدة وكأنْ انتفض أو صحا راوية القصيدة، فراح يذكّر تلك القوّة الغيبية (حاكمه) بما كان بينهما من شرط. تنتهي الابيات، وكأن باحتجاج من نوع ما.
يمكن قراءة نوع من عهد سابق بينهما وكأنهما ندّان ولكنّ أحدهما ألحق الضرّ بالآخر. تمرّد الراوية إذنْ عند هذا الحدّ.
هذا التمرد كموقف دينيّ، يختلف كلية عن موقف النبي أيوب (حسب الروايات الدينية)، الذي قلب له الشيطان ظهر المجن، فآبتلاه بما هو فوق الآحتمال البشري. مع ذلك لم يتحيّف، أو يتأففْ، أو يتسيّفْ.
تكثيراً للفائدة، فإن تعبير: "بحار الهوى" قد يكون من مبتكرات الحلاج. لا أذكر انني قرأته من قبل في غير هذه المقطوعة. مع ذلك فقد جاء موج شبيه"يرفع ويحط" بموج في الف ليلة وليلة (الليلة 597)، بموج راوي الحلاج
يذكر السندباد ان سفينته انكسرت وتفرقت جميع الالواح فتعلق بأحدها. قال السندباد:" صارت الأمواج تلعب بي
على وجه الماء وأنا قابض على ذلك اللوح، والموج يرفعني ويحطّني وأنا في أشدّ ما أكون من المشقة والخوف والجوع والعطش.
الفرق بين الروايتين ان همّ السندباد منصبٌّ على تهويل الهول بينما راوية الحلاج معنيّ بتصوير الحيرة الروحية بألفاظ مرمّزة، ومن هنا عمقها وتأثيرها.
- اجتهد الدكتوركامل مصطفى الشيبي محقق شرح ديوان الحلاج (ص234)، فقرر كلمة الشرط بالتعريف بدلاً عن "شرط"، معللاً ذلك بالقول " جاءت الشرط بالأصل خالية من أداة التعريف وبها يختلّ الإعراب، إذ لا يحتمل إلا النصب على الخبرية والضرورة الشعرية لا يسعها وبالتعريف تتحقق المساواة بين ركني الجملة وبذا تقع الكلمة اسماً مؤخراً لكان "(انتهى)
يبدو لي أنّ "شرط " منزوعة عن التعريف أقرب إلى الصواب لغويّاً، لأن "هذا" معرفة و"الشرط" معرفة حسب قراءة الشيبي. عندها يكون الأوّل مبتدأ والثاني خبراً كقاعدة نحوية.
وبهذا يلزم ان يكون منصوباً. فتختلّ القافية.
عجز البيت بالصيغة أعلاه أيْ: ما كان هذا بيننا شرط" يكون الإعراب هذا اسم كان وخبرها جملة "بيننا شرط".
نقول في عاميتنا العراقية: بيننا شرط (ونلفظها بينّا شرط).
عموماً تجنح التراكيب اللغوية إلى الغرابة وتتغير هندسة الجمل إذا بلغ الراوية اقصى معاناة، كأنْ خولط أو جنّ أو ثمل لدرجة فقدان الاتزان. تنطبق هذه الحالة على المتنبي كما تنطبق على شيكسبير خاصة.