طالب عبد العزيز
الليل صناعة بصريّة بامتياز: هكذا، قلتُ لنديمي، وأنا أچقُّ كأسي بكأسه، فضحك وضحكت معه، وصرنا نشربها صرفاً، داخل سيارته، مغلقة النوافذ، حيث يعلو صوت الاغنية فيها، في تحدٍ صريح، لمن ظلَّ يعتقد بأنَّه قادرٌ على سلب الحياة من أهل المدينة الاجمل في العالم.
البصرة أجمل في الليل، الشوارع الجديدة والانارة التي تتلطف الاعمدة بها، والهدوء النسبي الذي تشهده كلما توغلنا في الساعات تجعلها أجمل. تختفي مظاهر البناء وتنسحبُ الى مخازنها السقالات والاعمدة الحديد والاتربة والأشجار اليابسة وكلُّ شيء أسود ومغبّر من شوارع المدينة كلما صرنا الى الليل، فلا يظهر من الوجود إلا أجمله، كذلك يكون مشهد النسوة الجميلات في المطاعم والكافيهات أو وهنَّ يتنقلن بسياراتهن، وتأخذك الأزقةُ بأضوائها الليلية فلا تعود بك إلا ثملاً بما حولك من السلام والطمأنينة، قد تزدحم الساحات، وتتوقف الحركة طويلاً في بعض التقاطعات، نعم، بسبب الازدحام، فلا يضيرُ ذلك أحداً، ذلك لأنها فرصة ذهبية للحديث ولملء الكاس من جديد، ومعايرة الماء فيه، فلا ينقلب، وتحدثُ رائحته في المقعد الخلفي ما تحدثه.
غالباً ما تبتدأ الرحلةُ الجميلة هذه من (الصعدة) التي بشارع بشّار بن برد، شاعر المدينة (البصير) العظيم، والصعدة معروفة لدى البصريين من أول الليل حتى آخره. هناك عالم ثان، يختلف عما تشاهده عند باعة الفاكهة والتمر والخضار، عالم لا يشعر به إلا من أمّه متعجلاً ليلته بالسكر. هناك، جمهور من الصِّبّية يتلقفون الزبون حال بلوغه ساحتهم، هم يعرفونه من إشارة يده، ومن نوع سيارته. التاهو والجسكارة السوداء الفارهة للويسكي الفاخر، والسبورتج العالية البيضاء للبيرة والفودكا وفقرا اللبناني، وسواها من السيارات للعرق للأوزو الأبيض، بأنواعه وهكذا، يستقبلك الصبية السُّمر من سيارتك، وما أن تحط رحالك بينهم حتى يسارعون اليك، فلا يتأخر طلبك، لكن، سيتوجبُ عليك أن تغادر المكان بما أوتيت من العجالة، فقد يكون مزاج الشرطة سيئاً هذا اليوم، وتتعرض فيه لما لا يحمد عقباه.
ابتكر صاحبُ المحل الذي على الجادة طريقة هوّن فيها على السكارى حاجتهم الى الثلج والماء، فهو يبيعك نصف علبة من الثلج، واو؟ كيف؟ لا عليك، فالرجل يعرف عمله جيداً، فقد عمد الى إفراغ علبه الماء الى النصف، ثم وضعها في مجمّدة دكانته، فتجمدت، وترك نصف العلبة مائعاً، فأنت في حلٍّ من أمرك، تشتري النصف المتجمد بربع دينار وتشتري العلبة المائعة بربع دينار آخر، وبذلك ستكون كأسك قد تساوت بين جامدها ومائعها، ولئلا تبتعد كثيراً في البحث عن ما يعوزك، سيكون بائع الحمّص المطبوخ (اللبلبي) بعربته المضاءة عند باب الدكان، أيَّ شيءٍ بعد تريد؟ ها أنت قد أخذت ما تنصفُ به صاحبك وليلتك، وهذه المدينة متاحة لك، من أعلى الزبير الى أدنى ابو الخصيب.
كأنني أكتب إعلانا سياحياً! لكنني، لم آتِ بعدُ على فضائل الازدحام وبوح التقاطعات، حيث يتيح الوقت لك تأملَ المدينة بعين ثملة مختلفة، ولم آت على فضائل بائعة الذرة الجميلة، التي في شارع الكورنيش، وهي تُسلّمنا رأس (العرنوص) مملحاً وملفوفاً بكيس النايلون، ولا على جملة المطاعم، التي جاد الميسورون بها، فهي في كل مكان، ولا على الخرائب المهجورة، خارج وداخل محيط المدينة، والتي تتفضلُ هادئةً بجرذانها المسكينة لتمسي أمكنة آمنةً لتفريغ المثانات والأحاليل. المدن عظيمة بقيعانها، وحياتها الداخلية، لا بما هو ظاهر منها، والبصرة مدينة مُمجدةٌ في الألواح، وعظيمة في التاريخ، فيها قاع لا يعلمه إلا سكاراها. ما كنت لأعرف ذلك لولا الليالي الطوال التي أمضيها متجولاً بسيارات الأصدقاء، فقد خبرت شوارعها الخلفية، وأحصيتُ فضائلها فنافت على الالف والالفين والثلاثة، فأنا حاطبُ ليلها الطويل، وابن مفازاتها المظلمة، أبحثُ عمّا يعافه سائحُ النهار، ويغفل عنه متبضع الحاجات، وهو كثير.