بول سي. دبليو. ديفيس*
ترجمة: لطفية الدليمي
القسم الأول
وُلِدتُ لأكون فيزيائياً نظرياً. أعلمُ أنّ هذه القناعة تبدو عتيقة للغاية؛ غير أنّ هاجساً في نفسي جعلها أقرب إلى نداء كوني بالنسبة لي، و لم أخذل هذه الدعوة أو أدعها تغيب في مجاهل النسيان، ولم تزل متجذرة بداخلي حتى اليوم. منذ البواكير الاولى لطفولتي - وبالحدود التي أستطيع تذكّرها- أردتُ إتّباع المسار الذي إخترته لاحقاً عندما أدركتُ ما الذي تعنيه الفيزياء النظرية، وكيف يعمل العلم في نطاقه الاحترافي. لا أذكر واقعة محدّدة دفعتني لهذا الخيار مثلما لم يكن مِنْ معلّمين أشعلوا جذوة العلم فيّ أو كانوا بمثابة "ملائكتي الحارسة ". حصل الامر بطريقة تلقائية تماما من غير مداخلة بشرية.
ظنّتْني عائلتي أحمقَ، لم يكن العلم ميزة معروفة في الميراث الجيني لعائلة ديفيس. أذكر عمّة لي وقد سألتني غير مرّة:"متى ستحصلُ على عمل حقيقي؟". سألتني عمّتي هذا السؤال في حفل زفاف عائلي بعدما حصلتُ على أوّل وظيفة لي كمحاضر في الفيزياء في الكلية الملكية King›s College في لندن!!. جدّتي هي الاخرى أرادت أن تُعْلِمَني بطريقتها الخاصة سوء خياري الوظيفي فكانت لا تنفكّ تسألني بطريقة تلمسُ فيها نبرة التوبيخ:" قل لي ما هي الفيزياء بالضبط؟". والدي من جانبه، وهو الرجل الغارق في الحس العملي بالحياة، ملأته الشكوك بشأن حياة يقضيها المرء متأمّلاً الوقائع الغامضة في الكون، وكثيراً ما قال لي:" بُنيّ. لا تظُنّنّ أنّ أحداً في هذا العالم سيمنحك مالاً لمجرّد أن تجلس وتفكّر في الكون". وحدها والدتي منحتني مباركتها الكاملة لأن أكون عالماً شرط أن أعمل على تطوير علاج للسرطان!!. بدت الفيزياء لها علماً غامضاً مكتنفاً بالتعقيد والاستغلاق الكامل وعدم القدرة على التعامل مع المتطلبات اليومية للحياة البشرية. أتساءل دوماً: كيف انتهى الامر بطفل مرح، يعيشُ حياة اعتيادية وطبيعية في الضواحي اللندنية، لأن يكون فيزيائياً نظرياً ومتخصصاً بالكوسمولوجيا (علم دراسة الكون وتطوره. المترجمة)؟
كان دوماً ثمة شيء ما عميق في داخلي، شيء غريب، نوعٌ لحوح لا يهدأ من الهاجس الذي يرقى لأن يكون قَدَراً لا مهرب منه، هو الذي لبث يؤجج حماستي ويدفعني للفيزياء. إنّه دافعٌ شبيه بأن تشعر بوجود كائنات غير مرئية تجرّك جراً نحو قلب الوجود، ويقترن هذا بدافع لا يُقاوَمُ للبحث عن المعنى المخبوء في الكون. حصل هذا كله مصحوباً بقناعة راسخة بوجود معنى مؤكّد في مكان ما في الكون، وأنّ هذا المعنى يمكن بلوغه وهو ليس عصياً على الفهم. سأكرّر العبارة بتحوير بسيط شخصاني الطابع هذه المرة: يوجد معنى ما في الكون، وأنّ هذا المعنى ليس عصياً على فهمي، ويمكنني بلوغه لأنه ليس غولاً يستعصي على نطاق قدراتي في الفهم والمساءلة.
بالطبع لستُ وحيداً في اختبار مثل هذه المشاعر الحميمة فيما يخصُّ الرغبات ذات الدوافع الكونية؛ لكنّ كثرةً من البشر تطرح مثل هذه الدوافع الكبيرة بعيداً عن نطاق اهتماماتها فتذوي وتموت في بحر التجاهل والنسيان. ثمّة آخرون يزيحون عبء التساؤل من أذهانهم ويلتمسون الراحة في النزوعات الروحانية السائدة. في سنوات مراهقتي قبلتُ مواضعات الدين التقليدي؛ لكنْ بقيت هناك تساؤلات مفتوحة تقع خارج نطاق الاهتمام الديني وليس مطلوباً من الدين تقديمُ إجابات حاسمة لها. تعلّمتُ منذ بواكير مراهقتي أنّ من الافضل عدمَ خلط الفضاء العلمي مع الفضاء الديني. الفضاءان يعملان في نطاقات مختلفة، ويؤديان أغراضاً متباينة، وليس مطلوباً منّا قسرُ أحدهما ليؤكّد صحة الآخر. أذكرُ عندما كنتُ بعمر السادسة عشرة كيف كنتُ عُرْضَةً لإضطراب بالغ القسوة عندما تفكّرتُ ملياً في متناقضة الارادة الحرّة Free Will. تساءلت حينها: لماذا لا تقوم الذرّات في دماغي بعملها المعتاد مثل أيّ ذرّات أخرى في الكون بغضّ النظر عمّا أريد أنا فعله؟ لماذا عليها أن توجّه سلوكها تبعاً لما أريد فعله؟ ومن أين تنبع رغباتي؟ وحتى لو استطعتُ فعل كلّ ما أرغب في فعله بطريقة سحرية ما، كيف لي أن أعرف في المقام الأول الكيفية التي أردتُ بها ما أردت فعله؟ من أين انبثقت رغبة الفعل؟ كان أمراً صادماً لي بكلّ المقاييس عندما عرفتُ في سنوات لاحقة أنّ الطريقة الفضلى للإجابة عن تساؤل الثنائية الاشكالية الارادة الحرّة/الحتمية وكلّ الاسئلة الكبرى The Big Questions هي الفيزياء النظرية. الفيزياء في التحليل المعمّق هي النغمة التي ترقص على وقع قوانينها الذرّاتُ في دماغي وفي الكون معاً.
هكذا صارت الفيزياء النظرية بالنسبة لي، وبمعنى من المعاني الخاصة بي، أملي الافضل في بلوغ معنى للعالَم ومكانتي فيه؛ لكن لماذا كان هذا الامر ذا أهمية قصوى لي؟ لماذا لم أتجاهل -ببساطة- هذه الازمة الوجودية التي يحفّزها تساؤل عنيد لا يهدأ، وأكتفي بدلاً من ذلك بإيجاد (عمل مناسب) لي مثلما فعل أقراني؟
بعضُ الجواب يكمنُ في الضجر boredom. الضجر الواضح غير المُقَنّع الذي يجتاحُ العقل مثل وخزات إبر حادّة. نشأتُ في منطقة شمال لندن في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث الالعاب شحيحة، والطعام بأصناف محدودة تتكرّر كل يوم، والمدارس أماكن كئيبة. الرحلات إلى شاطئ البحر كانت نادرة للغاية وأقرب إلى هدية غير متوقّعة. لم يكن أحدٌ حينها في منطقتنا يمتلك جهاز تلفاز؛ بل حتى الكتب صارت تسلية كمالية مكلفة. لم يبدُ شيء مثير حينها ممكناً وقابلاً للتحقق. كنتُ توّاقاً في تلك الاجواء الكئيبة القاحلة لواقعة درامية حقيقية: غزو فضائي من قبل كائنات غريبة للأرض، معيشة مع كائن شبحي، رسالة من أحد الموتى، أو أي شيء من شأنه تخفيف أعراض الرتابة اليومية الكئيبة. أصبح العلم حينها مسعى خلاصياً لي للهروب من تلك الحياة الفقيرة البائسة. في شتاء عام 1955، عندما كنتُ في الثامنة، إصطحبني والدي وكنوع من المعاملة التفضيلية الخاصة لي لمشاهدة فلم Benny Goodman Story في دار السينما المحلية. قفلنا عائدين للمنزل مشياً على الأقدام في الظلمة الحالكة عبر طريق فرعي يخترق غابة صغيرة. توقفنا في أحد الأجزاء من الطريق وأشار والدي إلى نجمة براقة تدعى Sirius وبعض التشكيلات النجمية الصغيرة الملحقة بها. أتذكّر الحبور الذي ملأ قلبي عندما شاهدتُ تلك النقاط المضيئة في الظلام الحالك عبر الاشجار التي تساقطت أوراقها فبدت هياكل خاوية. ثم رأينا شيئاً ما يتحرّك سريعاً في السماء ويختفي. سبق لي أن رأيتُ مثل هذه الاجسام المبحرة سريعاً في السماء من الباحة الخلفية لحديقة منزلنا؛ لكني حسبتها أشكالاً غير مألوفة من ألعاب نارية غريبة عمّا عرفناه. أوضح لي والدي أنّ هذه الاجسام المتحرّكة هي نيازك تخترق الغلاف الارضي وتصبح شهباً محترقة.
كانت تجربتي تلك كأنها السحر الخالص بعيداً عن العالم ومحدّداته. كلّ ما فعلتُه هو النظر إلى الأعلى، وحينها استطعتُ الهرب نحو عالم عجائبي من الاجسام غير الارضية. كلّ هذا السحر العجائبي كان يقبع فوق رأسي؛ وبرغم هذا فهو غالباً ما يمضي من غير أن يختبره كثيرون من البشر الذي يشاركونني تجربة العيش على الأرض. يبدو هؤلاء البشر دوماً مأسورين بقبضة إنشغالاتهم العادية.
منذ تلك الواقعة صحبة والدي أسَرَني العلمُ بمهابته وجماله. الضوء والكهرباء هما أكثرُ ما بعثا الحيرة والرهبة بداخلي. لم أزل أشعر بحس الانجاز عندما كنتُ في تلك الايام أصنع تركيبات مختلفة من مصابيح كهربائية وأجعلها تضيئ بطرق مختلفة عن طريق ربط الاسلاك والبطاريات. ما أدهشني كثيراً في تلك الأيام هو أنّ طائفة كاملة من القوى والظواهر الخبيئة عن عيوننا وعقولنا يمكن أن نتلمّس آثارها بالاستعانة بمواد بسيطة يمكن أن توجد في غرفة كلّ منّا. كلّ ما يحتاجه المرء هو أن يتبع الخطوات الصحيحة للكشف عن هذه القوى والظواهر الفيزيائية. عمدتُ منذ ذلك الحين لجمع كلّ ما تقع عليه عيناي من مواد مهملة لا تصلح إلّا للقمامة: عدسات قديمة مثلومة، أسطوانات معدنية، مفرقعات نارية مهملة، أسلاك كهربائية متهالكة، مصابيح كهربائية ملقاة في طريق عودتي من المدرسة. كنت أفعل هذا وتساؤلٌ ملحّ يعبث بعقلي:"ما الفعل الذي أستطيع أن أجعل هذا الشيء الذي بين يديّ أن يفعله؟"
في عيد ميلادي الثاني عشر أهداني والديّ عدّة تحميض صور فوتوغرافية. لم أكن أمتلك كاميرا حينها؛ ومع هذا استعرتُ كاميرا والدي واعتدتُ الوقوف تحت النُدَف الثلجية المتساقطة من السماء لأجل تصوير مصابيح السيارات المتحرّكة سريعاً. لم أزل أتذكّرُ ذلك الإحساس المهيب عندما شاهدتُ أولى ملامح الصور الفوتوغرافية وهي تظهر في وعاء التحميض. كانت صورة للباب الأمامي لمنزلنا وقد ظهر عليه ضوء المصباح المنعكس عن طبقة الجليد المتكدّس على الارض. عندما أخرجتُ الصورة من وعاء التحميض شعرتُ كساحر يتلاعبُ بقوى خفية مرعبة.
عندما بلغتُ الرابعة عشرة إعتزمتُ بناء تلسكوب (مرقاب) خاص بي. شراءُ تلكسوب جاهز في تلك الايام المقترنة بالشحة لم يكن أمراً يمكن التفكير فيه حتى في الأحلام بعيدة المنال. كلّ ما اشتريته هو مرآة بنصف قطر أربع بوصات (إنجات. الانج(البوصة)= 2.54 ميللمتر. المترجمة). كل شيء آخر كان عليّ تدبيرُهُ من المواد التي أحتفظ بها كمهملات. استعنتُ ببعض القطع الخشبية المهملة في مطبخنا لتكون قاعدة حاملة للتلسكوب، وأعارني بعض أفراد العائلة والاصدقاء عدداً كافياً من الصواميل والبراغي (اللوالب) اللازمة لعملي، وكان كل هذا كافياً للبدء بأوّل مشاريعي في حقل علم الفلك الرصدي. بعد النجاح الذي أصبته في هذا التلسكوب إعتزمتُ بناء تلسكوب بمقياس أكبر؛ فكان عليّ تحضير المرآة الخاصة به بنفسي وهي بمقياس ثماني بوصات هذه المرّة. صنعتُ التلسكوب، واختبرتُ عمله وقد عمل بالفعل؛ لكنّه لم يكن بالكفاءة التي أردتها له. لكن برغم محدودية كفاءته فقد كان كافياً لرصد القمر والكواكب.
تحققت ذروة عملي كفلكي مراهق عام 1963 عندما قدّمت لي مارغريت تاتشر جائزة هي نسخة من أطلس نورتون للنجوم Norton›s Star Atlas. كانت السيدة تاتشر حينها عضوة في البرلمان البريطاني عن منطقة فنتشلي Finchley حيث كنتُ حينها طالباً في إحدى مدارس تلك المنطقة. كانت الجائزة هدية نهاية السنة الدراسية للطلبة الأفضل في نتائج اختبارات العلوم. بعد سنوات عديدة، وعقب حصولي على جائزة تمبلتون Templeton Prize -التي مُنِحَتْ لي تقديراً لأعمالي الساعية للتقريب بين العلم والدين- كانت البارونة تاتشر واحدة بين طاقم اللجنة التي وافقت على منحي الجائزة، كما وافقت بكلّ لطفٍ على وضع توقيع ثانٍ لها جنب توقيعها الاوّل على نسخة كتاب أطلس نورتون الذي قدّمته لي عام 1963.
- بول سي. دبليو. ديفيس Paul C. W. Davies: فيزيائي نظري وكاتب ومروّج للعلم وتأثيراته. ولد عام 1946. عمل أستاذًا في جامعة ولاية أريزونا ومديرًا لمركز BEYOND الخاص بدراسة المفاهيم الأساسية في العلم. شغل وظائف أكاديمية في كلّ من جامعات كامبردج، لندن، نيوكاسل، أديلايد (الأسترالية). وقد صدر له من ترجمتي عن دار (العالي) كتابه (الاله والفيزياء الجديدة).
- الموضوع ترجمة للفصل المعنون (Cosmology Calls) من الكتاب الذي حرّره الكاتب جون بروكمان John Brockman وأصدره عام 2004 بعنوان:
Curious Minds: How a Child Becomes a Scientist?
يتبع –القسم الثاني