جاسم الحلفي
في جلسة ضمّت شخصيات سياسية وفكرية، أشار الأستاذ فخري كريم إلى أهمية قراءة كتاب "الثامن عشر من برومير" لكارل ماركس، يساعد في تحليل أبعاد الخطاب الشعبوي وانعكاساته على التحولات السياسية في العراق بعد عام 2003. جاءت هذه الإشارة لاستكشاف الأسباب التي أدت إلى انتشار قيم الابتذال والتفاهة في الخطاب السياسي، ما دفع شرائح واسعة إلى الاصطفاف خلف خطاب سطحي يفتقر إلى العمق ويعبر عن نفسه بلغة مبتذلة وأسلوب تذمري دون تقديم حلول حقيقية.
طرح هذا الموضوع تساؤلاً محيراً حول سبب انضمام بعض المثقفين إلى تيارات سياسية قائمة على خطاب شعبوي سطحي تافه. هنا تتلاقى الأفكار مع كتاب "نظام التفاهة" للفيلسوف الكندي آلان دونو، الذي يناقش صعود الرداءة وتفشي التفاهة في النظام الاجتماعي والسياسي المعاصر. ومن هذه المقاربة، تبرز فكرة مقارنة بين أفكار ماركس ودونو للإجابة على تساؤل أساسي: كيف أسهمت الشعبوية والتفاهة في إعاقة التحول الديمقراطي في العراق، وتكريس سلطة سطحية تسير في طريق الانحدار القيمي والفكري؟
استحضار أفكار ماركس ودونو في المشهد العراقي
حذر ماركس من أن صعود بونابرت لم يكن حادثاً عرضياً بل نتيجة حتمية لتفاعلات الطبقات والصراع الطبقي. بينما يُظهر دونو أن النظام الحديث يُخدّر المجتمع بتعزيز التفاهة، مغلقاً الباب أمام النقد والتغيير. يؤكد المفكران، أن الشعبوية تخلق زعامات سطحية تُحكم ولاء الجماهير وتُعمق الانقسام الطبقي، ما يعوق الإصلاح الحقيقي ويترك النظام في حالة خضوع لسلطة هشة تعتمد ثقافة الرثاثة والتفاهة والابتذال.
يصف ماركس في "الثامن عشر من برومير"، كيف وصلت الشخصيات التافهة إلى السلطة مستغلةً ضعف الوعي الشعبي وتوظيف الخطاب الشعبوي السطحي، وهذا ينطبق بشكل واضح على الحالة العراقية، حيث وجدت الشخصيات المتنفذة في الشعبوية، التي تتغذى على العواطف والأزمات، وسيلة للتحكم في الرأي العام، رغم افتقارها لأي مشروع وطني فعلي. يوضح دونو في "نظام التفاهة" كيف ترفع الأنظمة الحديثة من شأن الرداءة على حساب الكفاءة والقيم. وعند إسقاط هذا التحليل على الواقع السياسي في العراق، نجد أن هيمنة الخطاب الشعبوي والتافه جعلت من العراق نسخة معاصرة مما وصفه ماركس في نقده للويس بونابرت، إذ تصعد الشخصيات باستخدام خطاب سطحي يعمق الخلافات ويستغل سذاجة العامة.
الشعبوية كوسيلة لتخدير الوعي الطبقي
يوضح ماركس كيف استغل بونابرت الأزمات السياسية والاقتصادية في فرنسا ليصعد إلى السلطة، مستخدماً خطاباً شعبوياً يظهره كمدافع عن مصالح الشعب وحقوقه، رغم أن هدفه كان تكريس حكم فردي مطلق. وبالمثل، يشير دونو إلى أن الأنظمة الحديثة تشجع على التفاهة على حساب الكفاءة، مما يخلق سياسات سطحية تجعل الشعب محاطًا بأطر وعي محدودة تُخدر قدراتهم النقدية.
يمثل بونابرت، في نظر ماركس، شخصية ضعيفة استغلت الشعبوية لتكريس أهداف ديكتاتورية، حيث قُدمت تنازلات رمزية لاستقطاب الجماهير دون معالجة الأسباب الجذرية للمشاكل. وبالمثل، يرى دونو أن النظام الحديث يجعل التفاهة معياراً رئيسياً في مواقع القيادة، مما يؤدي إلى تكرار مأسوي لانحطاط السلطة حيث تُعزز الرداءة بدلاً من الإصلاح الجاد.
الشعبوية كقناع زائف للديمقراطية
رأى ماركس أن بونابرت استخدم الديمقراطية عبر الانتخابات والاستفتاءات ليظهر كممثل للشعب، مستعيناً بشعارات مثل "السلام والازدهار" و"الوحدة الوطنية" لجذب دعم مختلف الطبقات الاجتماعية، لكن هدفه كان تقويض الديمقراطية لصالح سلطته الشخصية. من جانبه، يرى دونو أن الشعبوية الحديثة تتيح للشخصيات السطحية الوصول إلى المناصب بفضل القدرة على التملق، مما يقوض معايير الكفاءة ويجعل السلطة أداة للسيطرة على الجمهور دون مساءلة حقيقية.
اسقاط تحليل ماركس ودونو على وضع النظام السياسي في العراق
ينطلق كل من ماركس ودونو من رؤية مشتركة للشعبوية كأداة فعّالة تُستخدم في تقويض الديمقراطية، إذ تلتف حول شخصيات تفتقر إلى الكفاءة وتستفيد من خطاب عاطفي يضلل الجماهير ويخضعها لسلطة تقودها التفاهة. تناول ماركس كيفية استغلال بونابرت للضعف في الوعي الطبقي لتدعيم سلطته الديكتاتورية، فيما يشير دونو إلى أن الأنظمة الحديثة ترفع التفاهة إلى مواقع القيادة، ما يخلق سلطة هشة تعيق التغيير الفعلي وتبقي المجتمع في حالة من الاستسلام المستمر.
وكما بيّن دونو في "نظام التفاهة"، إن الشعبوية هي تعبير عن انحدار الطرح السياسي، ما يسهم في صعود شخصيات تافهة لا تقدم سوى إثارة النعرات وإشعال الأزمات، لتبعد الأحزاب عن مشاريع بناء الدولة وتزيد من تدهور البنية الاجتماعية. وبينما يُفترض بالديمقراطية أن تعزز الوعي وتبني الثقة بين القادة والمجتمع، نشهد في العراق النقيض تماماً حيث يتم تكريس التفكك من قبل زعماء يمثلون أحزاب المكونات، فأصبحوا يشجعون على الانغلاق الطائفي بدل أن يكونوا رمزًا للوحدة الوطنية. في هذا الجو المسموم، يتم تحييد قوى التغيير الحقيقية وتهميش الكفاءات والنخب المثقفة لصالح شخصيات تفتقر إلى الأهلية والقدرة.
أتاحت العملية السياسية بعد 2003 الفرصة لصعود قوى سياسية تفتقر إلى استراتيجيات واضحة ورؤية متماسكة لبناء دولة متينة. خلق هذا الفراغ السياسي بيئة تشجع شخصيات سياسية صعدت إلى السلطة بفضل انتماءاتها الطائفية والمكوناتية، لا بفضل كفاءتها وقدرتها القيادية. إن ما نشهده، بتعبير ماركسي، هو "مهزلة" تتكرر كلما أتيحت للشعبوية فرصة السيطرة. باتت أحزاب المكونات أشبه بوعاء تستخدمه شخصيات تفتقر إلى التأثير الثقافي والسياسي للارتقاء في مناصب عليا، معتمدة على لغة طائفية ومناطقية تفتقر إلى العمق السياسي.
الطغمة الحاكمة: تمثيل ساخر للديمقراطية
لم تأتِ هذه الشخصيات محمّلة برؤية لبناء دولة قادرة على النهوض بالمجتمع، بل هدفها الأساسي هو الحفاظ على الولاءات الطائفية والمناطقية كوسيلة لضمان بقائها في السلطة. عبر خطاب شعبوي خالٍ من الأهداف التنموية، ركزت هذه الأحزاب على إثارة الهويات الفرعية وتأجيج الصراعات الداخلية، ما أدى إلى تهميش القضايا الجوهرية لبناء الدولة وتحقيق التنمية. إن استمرار إعادة إنتاج السلطة بين أيدي هذه الشخصيات المتنفذة عبر انتخابات مطعون في نزاهتها، يُعتبر ً ساخراً للديمقراطية، فقد نجحوا في تصدير أنفسهم كـ"منقذين" للطوائف والمكونات التي ينتمون إليها، في حين أنهم عاجزون عن تقديم حلول حقيقية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وبدلاً من قيادة الشعب نحو التحول الديمقراطي، يُعطلون هذا التحول ويحوّلون الديمقراطية إلى واجهة زائفة تترك المجتمع في حالة من الفوضى والانقسام المستمرين.
الشعبوية كعائق للتحول الديمقراطي
لقد تحولت الديمقراطية في العراق من وسيلة للتحرر السياسي والاجتماعي إلى أداة تعزز التشتت. بدلاً من بناء دولة تستند إلى الإرادة الشعبية، أصبحت الشعبوية آلية تتيح لضعاف الكفاءة تسلق السلطة في أحزاب المكونات، مستغلين الشعارات السطحية كبديل للمشاريع الوطنية. تسببت هذه الشخصيات في عرقلة بناء الدولة القوية، مما حول الأمل إلى خطاب مستهلك يثير الفرقة ويزيد من تآكل النسيج الوطني.
إن التحول الديمقراطي في العراق بحاجة إلى مراجعة جذرية تعيد التوازن للسلطة، وتنقل القيادة إلى أيدي الكفاءات القادرة على معالجة الأزمات الحقيقية، بعيدًا عن الشعبوية التي تكشف يومًا بعد يوم زيفها وتأثيرها المدمر.