د. حسين الهنداوي
(4)
نظرية الدومينو (DOMINO THEORY) هي نظرية جيوسياسية قامت الولايات المتحدة الامريكية بترويجها خلال الحرب الباردة لتبرير تدخلاتها الغاشمة حول العالم، مفادها: إذا انتصرت الشيوعية في بلد ما، فإنها ستدعم انتصارها في البلدان المحيطة به تباعا، كما ان قطع الدومينو الواقفة تسقط تباعا اذا سقط احدها لسبب او آخر.
بموجب هذه النظرية التي تتجاهل الطموحات التحررية للشعوب المستعمرة او المضطهدة، وتجعل ثوراتها نتيجة تدخلات دول أخرى لا سيما الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، ولأن "الغاية تبرر الوسيلة" عقيدة اخرى لديها، عملت واشنطن على تبرير ابشع الحملات العسكرية والحروب التي شنتها ضد البلدان والأنظمة الخارجة عن هيمنتها في جنوب شرق آسيا وامريكا اللاتينية والعالم العربي ومجمل افريقيا. وهي حملات مدمرة لم تتكلل دائما بانتصار الولايات المتحدة بل بهزائم قاسية أحيانا كما حصل في الحرب على شمال فيتنام مثلا حيث استخدمت واشنطن خلال الفترة بين 1965 و1973 اضخم ترسانة حربية دون جدوى رغم تجربة كافة الاساليب التدميرية كالتجميع القسري للسكان في معسكرات اعتقال وقصف القرى بقنابل النابالم وقتل الأسرى واستعمال طائرات بي 52 لتدمير الغابات والأرياف، قبل ان تضطر الى قبول هزيمتها التاريخية في اتفاق قضى بانسحاب كافة القوات الأميركية، وإطلاق سراح كافة الأسرى وتسليم الجنوب الى حكومة الشمال التي يقودها الشيوعيون برئاسة الزعيم الشهير هوشي منه. وهكذا، فلم ينته آذار 1973 حتى غادر آخر جندي أميركي الأراضي الفيتنامية بعد ان ارتفع عددهم فيها ليبلغ اكثر من نصف مليون جندي منذ صيف 1968، فيما ارغم الرئيس الأمريكي نيكسون على الاستقالة في 9 آب 1974، اثر الكشف عن تورطه بعملية زرع أجهزة تجسس مموهة في مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس والتي ستعرف بفضيحة "ووتر غيت".
ولقد قدر عدد الضحايا الفيتناميين خلال سنوات الحرب الثماني بأكثر من مليوني قتيل وثلاثة ملايين جريح وما يناهز 12 مليون لاجئ فيما قدرت خسائر الجيش الامريكي البشرية بزهاء 57 ألف قتيل و153 الف جريح و587 أسيرا.
اذا كان نظام الرئيس الغواتيمالي المنتخب ديمقراطياً جاكوبو أربينز اول ضحايا الـ (سي أي اي) في أمريكا الوسطى بفعل الانقلاب العسكري المدعوم بغزو من المرتزقة الذي دبرته في 1954، فان نفس السيناريو سيتكرر في العديد من دول أمريكا اللاتينية وبطرق أبشع، كما حصل على سبيل المثال لا الحصر في الإكوادور وبنما وتشيلي. فخلال فترة الحرب الباردة كانت دول أمريكا الجنوبية والوسطى تحت الهيمنة الاقتصادية الامريكية ما جعلها مرتعا للحركات الاشتراكية والثورية وساحة مهمة للصراع الأمريكي السوفييتي.
وهنا أيضا اعترفت المخابرات المركزية الامريكية بعد نصف قرن، انها المخطط والمنفذ الفعلي لمعظم تلك الانقلابات التي كان من أهدافها الأساسية استمرار الشركات الاحتكارية الأمريكية في نهب ثروات تلك الدول التي تعرضت أحيانا الى حرب اقتصادية. فقد أظهرت الوثائق التي رفعت عنها السرية عام 2023 أن الرئيس الأمريكي آنئذ ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر وكبار المسؤولين في الحكومة الامريكية، كانوا على علم مسبق بعدد من تلك الانقلابات، وبخطط وتحضيرات الضباط الانقلابيين بشأنها.
ومن جانب آخر، كشفت وثائق رسمية مماثلة أن العديد من الضباط كانوا على اتصال أو عملاء لوكالة الاستخبارات المركزية أو المؤسسة العسكرية الأميركية. كما اكدت انها كانت الصانع الفعلي للازمات والاضطرابات المستديمة التي واجهتها تلك الدول، والمحرض الرئيسي لمشاركة الجماعات الفاشية والنازية المحلية بدور فعال في جرائم القتل والخطف التي تعرض لها اليساريون والنخب الثقافية لاحقا. فقد امتلكت تلك الجماعات ميليشيات وسجون فضلا عن مئات المستوطنات خارج سلطة الدولة اشهرها "كولونيا ديغنيداد" ("كولونيا الكرامة") والتي كانت توصف بأنها "دولة داخل الدولة"، وهي في الاصل مستوطنة معزولة تأسست في تشيلي بعد الحرب العالمية الثانية على يد المهاجرين النازيين الألمان لكنها اشتهرت بشكل خاص باعتقال انصار اليندي وتعذيبهم وقتلهم خلال دكتاتورية بينوشيه.
وجماعة "ديغنيدا" النازية تأسست في عام 1961 على يد النازي الألماني بول شيفر. وضمت في البداية عدة مئات من أتباعه يعيشون في مستوطنة على بعد 400 كيلومتر جنوب العاصمة سانتياغو، وبينهم العديد من الضباط النازيين الألمان.
وقبل عدة سنوات تم رفع السرية عن ملفات هذه المنظمة لنكتشف انها باشرت منذ عام 1970، بشراء وتجميع أسلحة قادمة من المانيا الغربية "وغالبًا ما تكون مخفية في شكل شحنات طبية خيرية" فيما اكدت مصادر اخرى ان الجماعة عملت أيضا على تصنيع الأسلحة محليا منذ ان تولت حكومة سلفادور الليندي السلطة" مشيرة الى ان الغرض من استخدام الأسلحة كان التحضير للانقلاب ضد حكومة اليندي فيما اكد صامويل فوينزاليدا، الذي كان عميلاً لجهاز المخابرات العسكرية التشيلية بقيادة أوغستو بينوشيه، قبل ان يستلم السلطة، انه: "كان لدي اتصال مع عملاء من مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي ووكالة المخابرات المركزية الامريكية.
وكما يقول مصدر صحفي ألماني: "من الواضح أن شبكة نازية ألمانية من أفراد قوات اس اس و اس أي، والغستابو الهاربين بقيادة مجرم الحرب، والقائد السابق في قوات اس اس النازية، والمطارد بسبب جرائم قتل جماعية فالتر راف"، لعبت دورًا مهمًا في الانقلاب، الذي تم تنفيذه إلى حد كبير بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الامريكية، وأعقبته واحدة من أكثر الدكتاتوريات رمزية في التاريخ المعاصر. فقد تم تجنيد راف من قبل المخابرات الألمانية في عام 1958 من أجل "منع انتشار الشيوعية في شبه القارة الأمريكية " وفي هذا السياق لعب دورا رئيسيا في إنشاء جهاز الأمن والقمع التشيلي الذي قاد الانقلاب فيما بعد. وبشكل عام تمتعت المستعمرة النازية بأهمية فائقة، فيما تمتع سكانها، بقيادة شيفر، بعلاقات وثيقة بنظام بينوشيه وجهاز مخابراته، اذ ادار شيفر المستعمرة دون ازعاج يذكر، بفضل تساهل وزارة الخارجية الألمانية، التي قيل بسذاجة، ان موظفيها غضوا النظر، ولم يفعلوا، الا القليل، لحماية مواطنيهم. والحال لم تكن المخابرات الألمانية على علم، منذ عام 1966، بـ "الأساليب الشبيهة بمعسكرات الاعتقال النازية" فقط، بل كانت على علم أيضا بشحنات الأسلحة السرية التي تدفقت على المستعمرة.