عدنان حسين أحمد
صدرت عن دار "المدى" ببغداد السيرة الذاتية المعنونة "رسائل في الوجع والمسرّة" للفنانة والمخرجة العراقية روناك شوقي التي أدخلتنا منذ البدء في التباس التصنيف الأدبي، فالعنوان يشير إلى كلمة "رسائل" بينما يحمل الغلاف الأول كلمة "سيرة" فقط من دون أن نعرف إن كانت هذه السيرة ذاتية أم غَيرية! فالسيرة الذاتية يكتبها المؤلف بنفسه عن حياته وتجاربه الشخصية التي مرّ بها. أمّا السيرة الغيرية فيكتبها مؤلف عن شخص آخر يعتقد أن سيرته الذاتية تستحق أن تُدوَّن لما تنطوي عليه من تجارب وخبرات حياتية في الأدب والفن والرياضة والسياسة وما إلى ذلك. والسيرة الذاتية بحسب الناقد والمُنظِّر الفرنسي فيليب لوجون يجب أن تحمل الاسم الصريح للكاتب وينبغي أن يتطابق هذا الاسم مع شخصية الكائن السيري أو الراوية الذي يسرد أحداثًا حقيقية وقعت بالفعل وأن يتجنّب الخيال المُجنّح الذي ينأى به عن الواقع الحقيقي الذي عاشته الشخصية الرئيسة التي تتمحور حولها الوقائع والأحداث. لا يسمح لوجون، وهو المتخصص في السيرة الذاتية منذ أربعة عقود، بأن تُعطى الشخصيات رموزًا أو حروفًا تموّه على الأسماء الواردة في النص السيري، ومع الأسف الشديد، فقد لجأت روناك إلى هذه التقنية التي طمست فيها أسماء بعض المحبّين والمعجبين والأصدقاء الذين مرّوا في حياتها ولفتوا انتباهها لكنها موّهت عليهم وحجبت عنهم الضوء لأسباب اجتماعية وأخلاقية ونفسية ربما يتعلّق بعضها بالتربية الأُسرية الصارمة التي لا تتيح للأبناء أن يلقوا الحبل على الغارب ويتصرفوا بحرية كاملة كما يفعل الأبناء في أوروبا وأمريكا وبقية البلدان المتفتحة في مختلف أرجاء المعمورة.
سيرة الذات والكتابة الحميمة
ولكي نثبت للقارئ الكريم بأننا أمام "سيرة ذاتية" وأنّ الكائنة السيرية أو الساردة هي روناك شوقي نفسها التي تتمحور حولها الأحداث الفنية والثقافية والاجتماعية والسياسية بما يلبّي حاجة السيرة الذاتية ويفيض عنها ليلامس الأسرة والمحبّين والأصدقاء والأساتذة والمبدعين الآخرين المنهمكين في مختلف أنواع الفنون القولية وغير القولية. وأكثر من ذلك فإن هذه السيرة تتنقّل بحرفية عالية بين الذات والموضوع لتلامس الشأن الوطني تارةً وربما تتجاوزه في بعض الحالات إلى الشأن الإقليمي أو العالمي تارةً أخرى وذلك لمرونة السيرة التي تُدبِّجها كاتبة محترفة من طراز روناك شوقي مع أنها تعترف تواضعًا بين طيّات هذه السيرة بأنها "ليست كاتبة"! وأنها لا تكتب مذكّراتها كما تفعل ابنتها "أوس" حينما تدوّن يومياتها بعفوية شديدة تغبطها عليها حينما تفرّغ أحداث اليوم الواحد على الورق لكي تصون ذاكرتها من آفة النسيان. ومع أنّ السيرة تنقسم إلى ذاتية وغَيْرية وهناك سيرة قد تختص بالمكان فتسمّى سيرة مكانية وأخرى تهتم بالزمان وما ينطوي عليه من أحداث كبيرة ومهمة فتسمّى سيرة زمانية، وهناك سيرة زمكانية ثالثة تجمع بين الزمان والمكان كما لاحظناها في سيرة روناك شوقي التي اهتمت بالزمكانية وأعطتنا صورة صادقة وأمينة بدءًا من الشالجية والعطيفية و14 رمضان والمنصور والداوودي والأقسام الداخلية التي سكنتها في موسكو ولينيغراد ودونيتسك وحي اليرموك في سورية قبل أن تنتقل إلى لندن وتستقر فيها لتتنقل مسافرة وزائرة لبيوت الأهل والأخوة والأخوات في تشيكوسلوفاكيا وهولندا وما سواهما من البلدان والحواضر الأوروبية. وإذا ما تعلّق الأمر بالوالد فإنها تشير إلى "المهدية" و "الحيدرخانة" وإذا ذكرت الوالدة فإنها تشير إلى "البصرة" قبل أن تنتقل منها إلى بغداد لكي تقترن بالفنان خليل شوقي وتكون ثنيّة روحه ورفيقة ذهنه المتوهج الذي تعلّق بها.
يمكن أن تندرج هذه السيرة الذاتية ضمن تصنيف "السيرة الروائية" إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أفراد العائلة التي تتألف من الأب والأم والأبناء السبعة؛ ثلاثة أبناء، وأربع بنات وهم على التوالي: الفنان الكبير خليل شوقي وزوجته الكريمة، وفارس وواثق وعلي، ومي ومنى وروناك وأيسر. وهذه الشخصيات التسع بتنوعها وعمقها الثقافي والفني كافية لأن تستجيب لاشتراطات "السيرة الروائية"، بل أنّ العمق المعرفي والثقافي والفني والسياسي والاجتماعي للنجم خليل شوقي وحده كافٍ لأن يشكّل سيرة روائية ناجحة إن حَبَكتها المؤلفة بنَفَس درامي مُستمد من الأحداث الكبيرة التي مرّ بها خليل شوقي فنيًا واجتماعيًا وسياسيًا وعاش عمرًا مديدًا جاوز التسعين بسنة واحدة.
المسرح.. جنّة الأحلام المؤجلة
تتألف هذه السيرة الذاتية من 48 فصلًا تبدأ برسالة "الصداقة" الموجّهة إلى صديق وهمي لا تعرفه لكنها تتخيّل وجوده في مكان ما من هذا العالم الفسيح، وسوف تتصور بأنه يقرأ أفكارها ويسمع منولوجها الداخلي الذي يمتدّ على مَدار سنوات عمرها الطويل. تتساءل روناك في هذه الرسالة إن كان بإمكانها أن تكون جريئة وصادقة في استدعاء ذكرياتها العاطفية على وجه الخصوص، وأن تحطّم جدران الخجل التي تُطبق عليها من الجهات الأربع، فالكتابة هي الطريقة الوحيدة التي تستطيع بواسطتها التعبير عمّا يدور في عقلها وروحها وخلجات نفسها الرقيقة المُلتاعة. وتُعزّز هذا الفصل بأمثلة كثيرة للرسائل التي كتبها تشيخوف وغوركي ودستويفسكي وفرجينيا وولف وآيزنشتاين وكافكا وماركس وإنجلز ولينين ومي زيادة وجبران خليل جبران. وإذا اعتبرنا فصليّ الاستهلال والخاتمة رسالتين لا يتجاوز مجموعها الست صفحات فماذا يمكن أن نقول عن الفصل الـسابع والأربعين الذي بلغ طوله 30 صفحة؟! كما أن بعض الفصول يحمل طابعًا سرديًا أو وصفيًا أو سياحيًا ولا يمكن أن ندرجه بأي حالٍ من الأحوال ضمن "أدب الرسائل". وبما أننا أمام سيرة ذاتية أو روائية فعلينا أن نبدأ بالحديث عن "الكائنة السيرية" التي تتبنى عملية الروي حيث تنقّلت في أكثر من مدرسة قبل أن تدخل إلى معهد الفنون الجميلة وتدرس التمثيل والإخراج المسرحيين وتشترك في تأدية بعض الأدوار في مسرحيات "روميو وجولييت" و "إنها أمريكا"و "الرجل المقطوع الذراع" و "يرما" لغارسيا لوركا التي علُقت في ذاكرتها، فالمسرح بالنسبة لها لوثة مجنونة جميلة لكن تظل تجربة الوالد خليل شوقي هي مَعينها الأول الذي نهلت منه الكثير المعلومات والخبرات الفنية التي جعلت من المسرح جنّة أحلامها المؤجلة. عملت روناك في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون في العراق لكنها لم تعش حياة وردية ناعمة وشعرت بأنها أصبحت جزءًا من ماكينة العمل الذي يطحن الأعصاب في كثير من الأحيان فلاغرابة أن تنطوي على نفسها وتستعيض عن الآخرين بالقراءة والتمارين المسرحية وسماع الموسيقى الغربية التي تأخذها إلى عالَم الأحلام دائمًا. ما يميز الكاتبة أو الساردة في هذه السيرة هو ولعها العميق بالأدب والفن والموسيقى وعلى مدى 469 صفحة يستطيع القارئ أن يجد إحالات أو استشهادات أو اقتباسات لأدباء وفنانين وموسيقيين وأساتذة أكاديميين من مختلف أنحاء العالم وربما يصل عددهم إلى قرابة 350 كاتبًا وفنانًا وموسيقيًا وأستاذًا جامعيًا يشكِّلون حصيلتها الثقافية والفنية والفكرية. يتعرض الوالد خليل شوقي إلى السجن وعندما يبحثون عنه يكتشفون وجوده في "نقرة السلمان" التي تقع في المنفى الصحراوي لمحافظة "المثنّى" بالقرب من الحدود العراقية - السعودية. وحينما تزداد المضايقات الأمنية تسافر روناك للدراسة إلى مهجرها الأول الذي استغرق سبع سنوات من التعلّم والغربة القاسية التي امتدت من 1977 حتى سنة 1984 التي توّجتها بالحصول على درجة الماجستير في الإخراج المسرحي. وبما أنّ علاقتها بالعراقيين المقيمين بموسكو ضعيفة جدًا فقد قررت أن تسافر إلى بعض الدول العربية التي تستقبل العراقيين المهمشين في المنافي مثل اليمن أو سورية أو كوردستان العراق، فلاغرابة أن تكون سورية هي الخيار الأفضل بالنسبة لها لكنّ ظروف السكن وصعوبة العثور على عمل جعل من مهجرها الثاني جحيمًا لا يُطاق على الرغم من أنها سكنت أول الأمر في منزل شقيقها واثق، المهندس الزراعي الذي درس في تشيكوسلوفاكيا وعاد إلى دمشق للبحث عن فرصة عمل وحينما شعر باليأس والإذلال قرّر السفر إلى اليمن عسى أن يجد بلدًا عربيًا آخرَ يحفظ له كرامته ويوفِّر له العيش الكريم في أقل تقدير.
إستوديو الممثل.. صقل التجارب الجديدة
لم يبقَ أما كائنتنا السيرية سوى الزواج والهروب إلى المنفى الثالث والأخير بلندن، عاصمة الضباب حيث أخرجت العديد من المسرحيات الناجحة من بينها "هبوط إنانا إلى العالم السفلي"، "جلجامش"، "بيت برنارد ألبا"، "همس الياسمين" و "خارج الزمن" التي حققت نجاحًا كبيرًا في عروضها اللندنية قبل أن تنتقل إلى العراق وتحصد نجاحًا مماثلًا رغم قلّة العروض التي أُتيحت لهم في البلد الأم الذي تغرّبت عنه نحو خمسة عقود تقريبًا. ومن المعلومات المهمة الأخرى في المنفى الثالث هو تأسيسها لـ "أستوديو الممثل" الذي ضمّ قرابة 20 فردًا غالبيتهم من الهُواة الذين أدخلتهم في ورشات تدريبية لفن التمثيل وقد أبدع الكثير منهم في صياغة شخصياتهم الفنية التي أوحت للجمهور بأنهم على قدر كبير من الجدية والصرامة والاحتراف. تنتقل روناك من بيتها اللندني الكبير الذي عاشت فيه أكثر من ربع قرن حيث زارهم فيه كبار الشعراء والأدباء العراقيين أمثال الجواهري وسعدي يوسف وفوزي كريم وفؤادالتكرلي وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعًا لتستقر في بيت صغير يتسع لوحدتها ونأيها عن المجتمع سواء أكان عراقيًا أم بريطانيًا لأنها بدأت تجد ضالتها في العزلة الوجودية التي توفّر لها القدرة على التأمل والإنصات إلى مناجياتها الداخلية ومراجعة مسيرتها الفنية والحياتية على حد سواء.
لا بدّ من الإشارة بشكلٍ خاطف للشخصيات الأسَرية الأخرى فالأم كانت أشبه بالمصدّ المطاطي الذي يمتص انفعالات الفنان خليل شوقي الذي لم يكتب مذكراته المهمة رغم تحفيز أبنائه فتاريخه مليء بالمنجزات الإبداعية المتنوعة في السينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون. أمّا الفنانة مي شوقي التي درست الفن التشكيلي ثم انعطفت باتجاه السينما والمسرح وحقّقت حضورًا متميزًا بسبب وعيها الفني المرهف وأدائها المختلف الذي لفت إليها الأنظار كنجمة متفردة لم تغادر ذاكرة المُشاهدين رغم صعوبة المنفى وعذاباته الروحية والنفسية. لم تكن "منى" محظوظة بين الأبناء الستة الآخرين حيث تناوشتها الأمراض وغادرت الحياة في وقت مبكر لكنها ظلت راسخة في أذهان الناس الذين عرفوها من كثب. وفي السياق ذاته اتجهت "أيسر" إلى دراسة الرياضيات، فيما توجّه علي إلى دراسة الموسيقى والتخصص بها، أمّا "عين القلادة" فهو فارس الذي انهمك في التمثيل والتصوير والعمل الإعلامي مؤخرًا وهو يضع نُصب عينيه صورة الوالد المتألقة على الدوام في محاولة لأن يحذو حذوه في طريق الشهرة والمجد وأصالة الحضور الفني ضمن المشهد الثقافي العراقي.
لا يمكن الإلمام بالمذكرات واليوميات والمواقف الكثيرة لهذه السيرة الذاتية لروناك شوقي في مقال واحد وهي تحتاج فعلًا إلى عدد من المقالات والدراسات العميقة التي ترصد الشخصيات الفنية المؤثرة في هذه الأسرة التي انخرط أكثر من نصفها في التمثيل والتصوير والإخراج والموسيقى والفنون الأخرى المجاورة لها حيث تألق كل في مضماره ونال الكثير من الإعجاب والمحبة والإشادة.
رسائل في الوجع والمسرّة.. سيرة صادقة عن الوطن الجريح والمنافي الثلاثة
نشر في: 3 نوفمبر, 2024: 12:03 ص