ستار كاووش
خرجتُ من متحف فيينا متوجهاً نحو متحف الإنفصاليين الذي بُني سنة ١٨٩٩ خصيصاً لعرض أعمال الفنانين الذين إنفصلوا عن المؤسسة الرسمية في فيينا وقاطعوا تقاليدها القديمة. إخترتُ أقصر الطرق مروراً بكنيسة كارل التي ما أن إجتزتها، حتى إلتمعتْ من بعيد القبة الذهبية التي تعلو المتحف. وما هي لحظات حتى عبرتُ شارع فريدريك صرتُ أمام المتحف بجدرانه البيض التي توزعت عليها الكثير من الرسومات والزخارف والكتابات.
قامَ بإنجاز هذا البناء الرائع، المعماري جوزيف ماريا أولبريخ خصيصاً لعرض أعمال الفنانين الإنفصاليين، ومازال هذا المتحف الى يومنا هذا تحت ادارة جمعية الإنفصال للفنانين التشكيليين. وقد عبَّرَ أولبريخ عن هذا المتحف بقوله (أردته ان يكون أبيضاً، مشرقاً ونزيهاً ونقياً، وفوق كل هذا مليئاً بالمشاعر الصافية)، وقد قامَ بإختار مكاناً مثالياً بمحاذاة أكاديمية الفنون وسط فيينا، ليُشَيِّدَ هذا المبنى الذي يتميز بالقبة الكبيرة التي تسطع فوقه، والمُغطاة بأوراق الأشجار المذهبة، والتي يظهر تحتها شعار الإنفصاليين مكتوباً بالذهب أيضاً (الوقت فناً، والفن حرية)، وبمحاذاة المدخل في جهة اليسار كُتبَ بحروف كبيرة (فير ساكروم) والتي تعني الربيع المقدس، وهو أيضاً الأسم الذي أطلقه الانفصاليون على المجلة الشهيرة التي أصدروها ونُشرتْ بها أعمالهم ورسوماتهم وتصاميمهم ونصوصهم، والتي كانت تهدف للوصول الى أعمال فريدة وفن جديد. كانت هذه المجلة طاغية التأثير، وقد ضم كل عدد منها أعمال فنان معين من المجموعة أو من الفنانين الآخرين الذين يرسمون ويفكرون بذات الاتجاه. المدهش في المجلة هو تصميمها الفريد والجديد في ذلك الوقت، فقد كانت مربعة الشكل وتحتوي على الكثير من الزخارف والرسومات واالنصوص المبتكرة وحتى القصائد وموضعات عن الموسيقى التي تتلائم مع تفكير الجماعة. وقد أستلهم كليمت الحجوم المربعة لأغلب مناظره الطبيعية من الشكل المربع للمجلة.
داخل المتحف كانت هناك مجموعة من المعارض، لكني تركت كل شيء مؤقتاً وتوجهتُ نحو الطابق الأرضي حيث يعرض عمل غوستاف كليمت (إفريز بيتهوفن) الذي تركه الفنان غير مكتملاً بعد رسم جزءً كبيراً منه سنة ١٩٠٢، وكان قد رسمه في المكان الذي عرضه فيه ضمن معرض جماعة الانفصاليين الرابع عشر الذي أُقيم بمناسبة ذكرى وفاة بيتهوفن وما يزال في ذات المكان. إرتفاع هذا العمل يتجاوز المترين بقليل، فيما عرضه يصل الى أربعة وثلاثين متراً، ياللحجم المهول ويا للعمل الآسر والفريد. وقد هيأ كليمت مائة تخطيط ورسم تحضيري لهذا العمل الضخم، ورسمَه على الجدار مباشرة بطبقات خفيفة من الألوان، وقد مزج في هذا العمل العملاق تقنيات واتجاهات ومؤثرات عديدة، حيث استلهم الفن البيزنطي والأشكال الأغريقية القديمة وتقنيات العصور الوسطى وحتى الفن الياباني، ووضع كل ذلك في بوتقة واحدة إسمها كليمت، بعد أن صاغها بطريقة فريدة وأضاف الألوان الذهبية بإسلوبة الشهير الذي أثر على الكثير من الفناني حول العالم.
تأملتُ تفاصيل الإفريز، الذي بدأ بجن يتموج نحو امرأة غافية، فيما يتأهب من الجهة الأخرى أحد الفرسان بدرعه اللامع كمنقذاً للبشر وهو يتهيأ للمواجهة. فيما يمثل الجزء الأوسط من الافريز، السعادة المُتخيلة والرغبات التي ظلَّت الطريق، لينتهي بترنيمات جوقة من النساء. يمثل الإفريز عموماً، رغبة الانسان في البحث عن السعادة، وهنا لا يتصارع الانسان مع القوى الخارجية فقط بل مع رغباته الداخلية. وقد تخلل العمل الكثير من اشكال النساء الشبيهات بالحوريات المحاطات بخيوط ذهبية متموجة، وهن مقابل جمالي وحسي للغوريلا تيفوس الذي يظهر في بداية الإفريز، وهنا أشارَ كليمت من خلاله الى مرض التيفوئيد الذي كان منشراً في أوروبا خلال القرن التاسع عشر. وفي النهاية ينتصر الانسان بوصوله الى الفرح والرضا من خلال العناق الوثيق والقبلة.
مرَّتْ سنوات طويلة على إنجاز هذا المتحف وهذه اللوحة الخالدة، ومازال الناس يأتون من كل مكان لمشاهدة ما قام به كليمت وأصدقاءه الإنفصاليين. وتعبيراً عن إعتزاز النمسا بإنجازات فنانيها، فقد وضعت بكل فخر رسماً لشكل المتحف على أحد وجهي العملة النقدية من فئة خمسين سنتاً، فيما طُبعَ جزء من من لوحة إفريز بيتهوفن على خلفية الورقة النقدية من فئة مئة يورو.