د. حسين الهنداوي
(5)
كما فعل بعثيو "الحرس القومي" في النادي الأولمبي ببغداد عقب انقلاب 8 شباط 1963، حوّلت الميليشيات الفاشية التشيلية ملعب سنتياغو، الى مسلخ بشري عقب انقلاب 11 ايلول 1973 الذي قاده الجنرال اوغستو بينوشيه بدعم من الـ (سي أي آي) واطاح بعهد الزعيم الاشتراكي سلفادور أليندي الذي وصل الى رئاسة تشيلي في نهاية 1970 عبر انتخابات ديمقراطية بكل معنى الكلمة. وفي ذات الملعب أيضا راح المغني والموسيقار التشيلي الشهير فيكتور جارا، ينشد بشفتيْه الممزقتين من فرط التعذيب، أغنيته المكابرة، "سننتصر"، وهو يتلقى وابلا اثر آخر من رصاص همجي مزق جسده قبل أن يعلو في سماء سانتياغو نجمة خالدة.
قبل ذلك، وحال تشكيلها، اعلنت حكومة اليندي عن وضع سياسة اقتصادية جديدة تضمنت تطبيق برنامج حالم تضمن تطبيق الإصلاح الزراعي وتأميم النحاس الذي كان بيد الشركات الامريكية وحدها بل ذهبت خطوة ابعد بفرضها ضرائب جديدة على تلك الشركات والمؤسسات والمشاريع الكبرى وغيرها من إجراءات تضر بالهيمنة الامريكية على الاقتصاد التشيلي. لذا لم يكن مستغربا ان تبادر واشنطن بإلغاء مساعداتها الاقتصادية المخصصة لدعمه. وهذه لم تكن سوى الخطوة الأولى في الحرب الاقتصادية التي أمر بها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بهدف للإطاحة بحكومة اليندي الذي عجل بتنفيذه تفاقم "مظاهر العداء" في سياستها الخارجية التي لم تقتصر على الاعتراف بألمانيا الشرقية وبالصين الشعبية وإعادة العلاقات مع كوبا وغيرها من الخطوات التي اعتبرت انحيازا الى الخصم السوفييتي، انما تفاقمت اثر قيام الرئيس الكوبي فيدل كاسترو بزيارة استفزازية الى تشيلي (دامت أربعة أسابيع!) واحيطت باستقبال شعبي واسع صاحبه تطبيل للصداقة القوية بين اليندي وكاسترو والتحذير من ان كوبا ليست وحدها لا ان تشيلي أيضا في طريقها نحو الاشتراكية.
وهكذا، وبعد فترة اولى من الازدهار والاستقرار الظاهري خلال عامها الأول بفضل المكاسب المهمة التي حققتها وانعكست في ارتفاع مستوى حياة العمال والفلاحين وتراجع البطالة وانخفاض التضخم وازدهار المشاريع الصغيرة والمتوسطة، دخلت تشيلي في دوامة متصاعدة من الاضطرابات والإضرابات المصطنعة والاغتيالات السياسية التي سقط فيها بعض كبار الوزراء وكان واضحا ان اليمين الفاشي هو الذي يقف وراء تلك الاغتيالات كما دعم نجاح الانقلاب العسكري الدموي الذي قاده الجنرال بينوشيه واسفر عن قتل رئيس البلاد المنتخب ديمقراطيا سلفادور اليندي والاطاحة بحكومة الوحدة الشعبية، فضلا عن ارتكاب مذابح بشرية ساهمت فيها الجماعات الفاشية والنازية اسفرت عن تعرض عدة آلاف مواطن للقتل او الموت تحت التعذيب أو التغييب القسري بينهم المئات من الاكاديميين والعلماء والكوادر الوطنية فضلا عن الشخصيات السياسية والعسكرية والنقابية اليسارية. كما تم اعتقال نحو 100 ألف آخرين، واضطر أكثر من ربع مليون غيرهم الى الهروب الى المنافي خشية التنكيل. وسارع بينوشيه الذي وُصف بـ"جنرال واشنطن" التي دعمته بلا حدود على الرغم من انتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان، الى تأكيد هذا الوصف فور وصوله على الحكم، بتنفيذ طلب الإدارة الامريكية بقطع علاقات تشيلي مع كوبا والاتحاد السوفياتي الامر الذي كانت حكومة اليندي ترفض القيام به.
من جانبها اعترفت الـ (سي أي آي) عام 2000 بانها قامت في 1970، باختطاف وقتل رينيه شنايدر (القائد العام للجيش التشيلي آنذاك) لرفضه استعمال الجيش لمنع تنصيب اليندي فيما كشفت وثائق استخباراتية أمريكية اخرى، أن الوكالة كانت متواطئة باغتيال رئيس المخابرات التشيلية في عهد أليندي، الجنرال مانويل كونتريراس وكذلك وزير الدفاع والخارجية أورلاندو يتيليه، بتفجير سيارة مفخخة وعلى بعد ميل واحد من البيت الأبيض عام 1976.
وأيضا كما في 8 شباط 1963 في العراق، بدأ الانقلاب في تشيلي بقيام طائرات الانقلابيين بقصف محطات الإذاعة الموالية للرئيس اليندي، ولم يبث منها سوى واحدة انطلقت عبرها آخر كلماته للشعب التشيلي التي القاها في حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم 11 أيلول، وجاء فيها: "أيها المواطنون، ستكون هذه، على الأرجح، فرصتي الأخيرة لمخاطبتكم.. لن أستقيل! وفي هذه اللحظة الحرجة ذات الأهمية التاريخية، سأدفع حياتي ثمنا لولائي للشعب.. التاريخ ملك لنا، والشعوب هي التي تصنعه.. في هذه اللحظة المظلمة والمريرة عندما تسود الخيانة، يجب أن تعرفوا، أنه عاجلاً أم آجلاً، وقريباً جداً، ستُفتح مرة أخرى آفاقا أرحب عندما يسعى اناس أحرار لبناء مجتمع أفضل".
وبعد عام من اغتيال أليندي كشف مدير الـ (سي أي آي)، وليام كولب، الدور الذي لعبته وكالته للتخلص من أليندي، مؤكدا أن حكومة نيكسون أنفقت 8 ملايين دولار على نشاط المخابرات الأمريكية في تشيلي خلال الفترة من عام 1970 إلى 1973، لعرقلة أعمال حكومة أليندي.
ففي صبيحة يوم الانقلاب الدموي تحركت القوات المسلحة التشيلية بأوامر من قيادة الجيش لتسيطر على المناطق الاستراتيجية في تشيلي وحين رفض الرئيس المنتخب التنازل عن السُلطة راح عدد من الدبابات والمدفعية والطائرات يقصف القصر الجمهوري بشكل كثيف ولم يتوقف إطلاق النار الى ان تمت قتل اليندي وكل من قرروا البقاء معه في مقر عمله حيث أستمر القتال لبضعة أيام أُخرى في الأحياء الشعبية بين المواطنين من مختلف الفئات الاجتماعية التي انتخبت أليندي وبين قوات عسكرية تدعمها الميليشيات الفاشية المحلية.
وبالتوازي مع طرح مشروع القرار في مجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة، نشرت الحكومة البريطانية وثائق سرية عائدة إلى سنوات 1972 – 1974 أي إلى سنوات التهيئة للانقلاب والسنوات التي تلت نجاحه، كشفت لأول مرة، أن المخابرات البريطانية كانت ترتبط بعلاقات وثيقة مع ابرز قادة الانقلاب وتورطت بتقديم الدعم لهم بعد نجاحه.
وكان الجنرال بينوشيه الذي توفي في 10 كانون اول 2006 اعتقل في نهاية 1998 اثناء زيارة علاج في لندن واحتُجز رهن الإقامة الجبرية لمدة عام ونصف، حتى أطلقت الحكومة البريطانية سراحه في مارس 2000. وكان اعتقال بينوشيه الذي حكم تشيلي بين عامي 1973 و1990، بتهمة ارتكاب عدة جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان في موطنه تشيلي وكان بعضها جزءًا من عملية كوندور، وهي حملة لقمع المعارضين السياسيين في تشيلي وخارجها بالتنسيق مع وكالات الاستخبارات الأجنبية. كما اتُّهم بينوشيه باستغلال منصبه لزيادة ثروته الشخصية من خلال اختلاس الأموال العامة وتهريب المخدرات والاتجار غير المشروع بالأسلحة. ووجد تقرير ريتيغ أن ما لا يقل عن 2,279 شخصًا قُتلوا بلا شك على يد الحكومة التشيلية لأسباب سياسية خلال نظام بينوشيه، ووجد تقرير فاليش أن ما لا يقل عن 30 ألف شخص تعرّضوا للتعذيب على يد الحكومة لأسباب سياسية. وقبل وفاته في 10 كانون اول 2006، وُضع مرة أخرى تحت الإقامة الجبرية في قضية قافلة الموت وهي تصفية عدد كبير من السجناء اليساريين دون محاكمة وبخطة تحاكي قضية "قطار الموت" ابان الحكم الفاشي البعثي في العراق عام 1963. وفي نيسان 1999، دعت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر والرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش الحكومة البريطانية إلى إطلاق سراح بينوشيه، كما أرسلت ثاتشر له زجاجة من "ويسكي سكوتش" المعتق، وعليها ملاحظة تقول: "سكوتش مؤسسة بريطانية لن تخذلك أبدًا."!