محمد عطوان
الهُويات المُتقابلة للجماعات المحلية في المشهد العراقي العام موجودة بصيغ جماعاتية ثقافية ملموسة: عرقية وجندرية ولغوية وطبقية… الخ. وأن وجودها ضروري ولازم في عملية إحداث الجدل الاجتماعي للانتقال بحالة المجتمع المحلي إلى ما هو أكثر تطوراً وأفضل وأرقى.
لكن، ما هو مُستنكرٌ في صيغ التقابل هذه، وما ليس متحققاً منها بالفعل هو القول بوجود الجدل لهُويات تتدافع على أسس مذهبية وطائفية، أقل ما يُمكن أن يُقال عنها إنها هُويات مُتخيّلة، وقاتلة، ومُصمتة، ومُنغلقة على نفسها في الأصل.
ما كان يشغلنا من هذه الهُويات الكبرى المُتمايزة، ويُغرينا على التدافع لأجلها لسنوات طويلة، ويُقسمنا إلى جبهات (سُنيّة وشيعية)، (عربية وكُردية) لم يفضِ إلى نقيضه المتوقع أبداً، ولم يتحقق منه شيء كما كُنا نتصوره ونرجوه.. هذا ما كانت تُرشدنا إليه خُلاصات وعِبر التاريخ عن فحوى وفاعلية الديالكتيك.
لذلك، ما وضعتنا فيه [هذه الهُويات المُتخيّلة والقاتلة] هو وضع غير مُريح عند النظر إلى ما ينتظرنا منه في المستقبل القريب، وضع يقوم على التلاعب في إدراكاتنا لا أكثر.
وفي الواقع لستُ أعلم، إلى الآن، لماذا راح الشبابُ العراقيون في السنوات الفائتة يُلاقون حتوفهم على كُل الجبهات عن قضايا لا تمت للواقع بصلة؟ كما لستُ أعقلُ إلى الآن لماذا كان العقلُ الاعلامي المنادي بالحيادية، والعقل الأكاديمي الذي ظل يزدهي برصانته يتحول برمشة جفن إلى عقلٍ مُطبلٍ لهذه الصراعات الزائفة؟
هذا يعني أن الموت الذي كنا نلاقيه هو من صنيع تلك العلاقة المُلتبِسة التي كان يستديمها النظام الحاكم، وتستمرأها القوى الطائفية فيه، وتستجيب لها هتافات العوام المُقادة بلافتات هيجانية.. ويعني أيضاً أن الإعلام الحديث بنجومه المُنمَقين، وتقنياته فائقة الجودة، ومخرجاته التي تبدو مُخرجات منهجية حداثوية لم يكن يُمثل سوى القشرة الخارجية في مضمون الأطروحة الطائفية السائدة.. وإن الفضاء الأكاديمي الذي كان يوجِد الأسئلة الفلسفية الكبرى لم يكن يطرح شيئاً منها في الواقع سوى ما يُلائم حدود وأطر الاطروحة الطائفية نفسها.
لذلك، لو عوينت بنيّة النظام الأيديولوجي الحاليّة في العراق لبدا لنا غياب الجَدل واضحاً فيها، وحتى إن وُجِد هذا الجدل فأنه ينوجد بصيغ طائفية مُضللة، ويُسمّى جَدلاً سياسياً زائفاً! أي: يشجرُ بصيغٍ شكليّة ما بين جماعات طائفية متخيّلة، مُتماثلة في الجوهر ومُتمايزة في المظهر.
هذه الجماعات تتقابل ضمن نظام مُحدَّد مُنغلق على نفسه؛ ولا يوجد فيه ما يدفع إلى التغيّير أو النقض..
فالغاية التي يتوسمها النظام هي تأمين مصائر الأجزاء المُتدافعة داخل كُل طائفة على حدة، وأيضاً تأمين مصالح الطوائف المتشاركة فيه.. إذن العلاقة ما بين الطوائف المُختلفة داخل النظام لا تعنى سوى بفكرة دوامها فيه. والأفراد على تمايزهم أيضاً وهُم يتحركون في رحاب طوائفهم، إنما يُحكَمون بنمطٍ يتسمُ بشيءٍ من التعقيد لِما ينطوي عليه من أشكال وهياكل مُتنوِّعة تحفظُ له دوامه على هذا النحو.
المفارقة في ذلك هي إن الحراك الذي يقترحه النظام الحاكم لم يكن ليؤسس حركة صراع مادي في التاريخ، إنما يديم نوعاً من التشارك لأطراف أو مُكونات تَتدافع في ضمن علاقة جدليّة "زائفة". وهذه العلاقة على ما تُظهره من مواقف جادة، لم تكن علاقة طبقيّة قائمة على نوعٍ من التباين الاقتصادي والفلسفي، إنما هي مُجرد علاقة ما بين مُكونات طائفيّة مُتماثلة تتشارك في توازن "صراعي" يُديم حركة الدولة فحسب.. وأي اختلال لهذا التوازن هو اختلال للدولة نفسها.
مع ذلك رغم الاختلاف في طبيعة كُل مُكون من هذه المُكونات داخل هذا النظام إلا أن هذه المُكونات تدّخر قدراً من التماثل الثقافي والمصلحي أيضاً. فالصراع بين هذه المُكونات لم يكن قائماً على التباين في المحمولات الاقتصاديّة والفلسّفيّة والثقافيّة التي يدّخرها كُل مُكون عن نفسه ولنفسه، إنما هو مجرد تمثيل صوري عن فكرة الاختلاف الموهم. لذلك، الصراع الذي يُمكِن تَصوّر حدوثه ـ بكيفيّة ما ـ هو تدافع شكلي تحرره اللغة داخل النظام.. ولم يكن ليحدث جدلاً مادياً في الواقع، ولا ينقض البنيّة الطائفيّة للدولة نفسها.. كما لا يُقوِّض العلاقات الناظمة لحركة الطوائف في ضمن مجال تجريدي عام.
لذلك تطمئن المنظومة الطائفية السائدة إلى استقرار سيادتها الماديّة وثباتها عند درجة تسمح فيها لنفسها بترَف الصراع، وبإمكانيّة انقسام "خصومها" إلى فئات متعارضة.
فما يبدو للعيان أن الفئات الطائفية تعيش تصارع دائم، لكنّ هذا النوع من التصارع يظل مقبولاً إلى الحد الذي لا يهدد الطبقة الطائفية السائدة بكاملها، فهذا التهديد من شأنه أن يسقط التعارض لمصلحة التماثل فحسب.