TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > جبان لكنه فنان

جبان لكنه فنان

نشر في: 8 ديسمبر, 2012: 08:00 م

لدى أحد أصدقائي ولدان، أكبرهما ذكي ولماح وحساس، لكنه يخاف من مواجهة الآخرين، وكثيراً ما يتعرض للضرب من قبل الأطفال الشرسين لأنه لا يحسن القتال. أما أصغرهما فذكاؤه طبيعي لكنه شرس وحاد الطباع، ويلجأ لاستخدام يديه في حل مشاكله. الأب يؤنب الكبير دائماً. يعتبره جباناً ولا يملك الصفة التي تؤهله ليكون رجلاً حقيقياً في المستقبل، وبالمقابل هو يحب الصغير، ويمتدح شجاعته باستمرار.

سألت صديقي هذا يوماً، كم مرة تعتقد أن ابنك الكبير سيحتاج إلى استخدام يديه دفاعاً عن نفسه أو دفاعاً عمن يلوذون به؟ فقال لا استطيع أن أخمن، قلت: فكم مرة احتجت أنت إلى ذلك؟ فأجاب، ربما أقل من خمس مرات طوال عمري.. طيب، قلت له، فكم مرة تعتقد بأن أحدنا يحتاج إلى استخدام عقله لإنقاذ نفسه من موقف أو حماية مصالح من يلوذون به؟ فقال: مرات لا تحصى، بل في كل يوم نحتاج العقل في مثل هذه المواقف.. إذن، سألته، فلماذا تحرص على أن يتحلى طفلاك بصفة نادراً ما يحتاجانها، وتهمل أخرى تعتقد بأن حياتهما تعتمد عليها؟

موقف صديقي هذا يمثل حالة عامة جداً، فلدينا حب كبير للطفل الشرس الذي يحسن القتال، وهذا إحساس طبيعي، والشجاعة بحد ذاتها ضرورية، لكن بالمقابل فإن الشعور بالخوف من المواجهة، الذي يجعل بعض الأطفال بنظرنا جبناء، ليسوا مسؤولين عنه، وهم لم يختاروه، وبالتالي فمن القسوة أن نعنفهم بسببه، أو نميز بينهم وبين غيرهم، مما يعرضهم لضغط عاطفي هائل. هذا من جهة، ومن جهة أهم، فإن ما نعتبره جبناً هو مركب في شخصية الفرد ناشئ من مجموعة من العوامل أو المشاعر والعواطف، منها الحساسية المفرطة، التي غالباً ما تكون سبباً في الإبداع أو العبقرية. من هنا فقلما يكون الأطفال المتنمرون أو الأشقياء، عباقرة عندما يكبرون. لذلك علينا أن نترفق بالأطفال الذين نعتبرهم "جبناء"، فهم في الحقيقة يفتقرون لصفة واحدة من مجموعة كبيرة من الصفات، صفة قد لا يحتاجون إليها في حياتهم كلها، وبالمقابل قد تكون لديهم صفات كثيرة تستحق الإشادة والتقدير، وقد تجعلهم مؤهلين ليكونوا أكثر شجاعة من غيرهم في المواقف التي لا تتطلب استخدام قبضات اليدين. وحتى بالنسبة للذكاء، فنحن نركز ـ ونشجع- على نوع واحد من أنواعه، ذلك الذي يأتي بدرجات عالية في الدراسة الابتدائية، مع أن هذه الدراسة، بالذات في مجتمعاتنا، لا تصلح للكشف عن كامل قدرات الأطفال. أقصد هناك ذكاء تحليلي، وهناك تركيبي، وهناك ذكاء اجتماعي. هناك طفل لديه قدرات رياضية كبيرة تؤهله ليكون عالم فيزياء، لكن لا تؤهله ليكون فناناً تشكيلياً، والعكس صحيح، ولكل من الفيزيائي والفنان، نفس الأهمية بالنسبة للمجتمع. علينا فقط أن نفهم حكمة التنوع والتعدد في القدرات، ونكف عن تعنيف الأطفال على صفات ليس لهم ذنب فيها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. salam

    موظوع مهم ورائع والاروع الطرح الجميل للاستاذ سعدون ضمد شكرا على هذه الملاحظات القيمة

يحدث الآن

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: بيل غيتس ودراويش بلاد الرافدين

العمود الثامن: الزعيم منزعجاً

العمود الثامن: الطبيب أنور وصاحب "ألوان"

العمود الثامن: نائب يكره القانون !!

أي نجفٍ بعد السيد علي السيستاني؟

العمود الثامن: إخجلوا !!

 علي حسين يخوض السياسي العراقي، وعذراً على كلمة "سياسي" التي لا تنطبق على 80 بالمئة ممن نشاهدهم على شاشات الفضائيات، معارك من اجل المغانم بحجة انهم تبحروا في علوم السياسة حتى تجاوزوا عميد...
علي حسين

قناطر: قبورنا التي تلتهمنا

طالب عبد العزيز بعيداً عن السردية الدينية التي تؤسس لمقبرة النجف(وادي السلام) يتوجب على الدولة العراقية أنْ تفكر ملياًّ في المساحات الشاسعة من الأرض التي تقضمها المقبرة، إذا ما علمنا بأن 500.000 الف جنازة...
طالب عبد العزيز

الغاز الإيراني و الفرصة التاريخية

ثامر الهيمص نعم الغاز الايراني بات درسا، بل قاسيا وضعنا في حرج شديد ووضع الحليف الامريكي في الاشد انسانيا واخلاقيا. اذ لا زال الغاز الايراني يتدفق باريحية عالية الى تركيا, فبطلت الحجة. وهكذا بلا...
ثامر الهيمص

بيت المنقسم والمعركة المؤجلة: أزمة الشرعية في ظل استحقاق انتخابي مضطرب

محمد علي الحيدري حين تقترب اللحظة الانتخابية، لا تختبر الأنظمة السياسية فقط قدرتها على التنظيم والإدارة، بل تُعرّي أيضًا بنية التفاهمات التي قام عليها التوازن السياسي في مرحلة ما. وفي الحالة الراهنة، يبدو أن...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram