لطفية الدليمي
واحدةٌ من الفضائل المحمودة - بين فضائل كثيرة- للدكتور (سيّار الجميل) أنّه يذكّرُنا بين الفينة والأخرى بعراقيين غابوا عن عالمنا وظلّوا شبه مغيّبين لكثرة من العراقيين. مؤسفٌ كثيراً أنّنا لا نسمعُ بأسماء هؤلاء وبعض منجزاتهم المهنية والأكاديمية إلّا عقب رحيلهم في قطار الأبدية. الدكتور الراحل قبل بضعة أسابيع (طارق يوسف إسماعيل) أحد هؤلاء.
كتب الدكتور سيار الجميل بلغته العربية الأنيقة تعريفاً مهمّاً ومختصراً بحياة الراحل، ضمّنه ملامح شخصية من علاقتهما التي إمتدّت سنوات طوالاً منذ سبعينيات القرن الماضي حيث كان الدكتور سيار يحضّرُ دراساته العليا في بريطانيا، ثمّ تواصلت علاقتهما بعد اختيارهما المستقرّ الكندي ليكون حاضنة هادئة لهما. ثمّة تفاصيل مثيرة في حياة الراحل، منها مثلاً أنّه تعاون مع زوجته الدكتورة (جاكلين) في تأليف العديد من الكتب المشتركة. للأسف رحلت زوجته قبله، وتسبّب رحيلها في تعظيم وطأة الحياة عليه. عملت زوجته أستاذة معه في جامعة كالغيري Calgary ذاتها؛ بل في القسم ذاته أيضاً. تلك علاقة زوجية وأكاديمية نادرة وجميلة بلا شك. ثمّ أنّ وفاة الراحل كانت مأساوية؛ إذ توفّي وحيداً في مسكنه وهو بكامل قيافته من بدلة وربطة عنق.
عندما قرأتُ منشور الدكتور الجميل بشأن الراحل أحسستُ منذ البدء أنّ الإسم ليس بغريب على مسامعي، ثمّ عندما مضيتُ في قراءة قائمة الأعمال المنشورة للراحل عرفتُ حقيقة الأمر؛ إذ سبق لي قبل ما يقربُ من عشر سنوات -وأنا أراجعُ منشورات جامعة كامبردج- أن مرّ على ناظريّ كتاب عنوانه بالإنكليزية The Rise and Fall of Iraqi Communist Party. المثير في الأمر أنّ مؤلفه كان يبدو إسمه عراقياً مؤصّلاً (طارق إسماعيل). أمكنني الحصول على نسخة ألكترونية من الكتاب، وبعد أن إطّلعتُ على قائمة محتوياته عرفت أنّه كتاب رفيع المستوى مكتوب بإنكليزية رصينة. إكتفيتُ حينذاك بقراءة تقديم المؤلف للكتاب، ثمّ إنغمستُ في أعمال أخرى. عاد إسمُ الدكتور (طارق إسماعيل) مرّة ثانية ليتردّد أمامي عندما علمت أنّ (دار سطور) العراقية نشرت ترجمة عربية للكتاب أعلاه قبل بضع سنوات.
أعمال الراحل التي سطّرها الدكتور الجميل في آخر منشوره تبدو مهمّة للغاية؛ فالدكتور طارق اسماعيل المؤرّخ الأكبر لتاريخ الحركة الشيوعية العربية، والمحلّل البارع لتواريخ الأحزاب الشيوعية في كلّ من العراق ولبنان وسوريا والسودان. ثمّ هناك تحليلاته للشرق الأوسط وموضوعة الإستبداد والحكومة فيه؛ أما العراق فيشغلُ مكانة مركزية في أعمال الراحل، وأشيرُ بالتخصيص لكتابه:
Iraq in the Twenty-First Century
Regime Change and the
Making of a Failed State
العراق في القرن الحادي والعشرين: تغيير النظام وصناعة دولة فاشلة. من المؤلم التركيز على عبارة Failed State (دولة فاشلة) التي صارت من المفردات الكلاسيكية في أدبيات التنمية السياسية. الكتاب منشور عام 2015 عن دار نشر راوتليدج المرموقة، وهو غير مترجم إلى العربية مع الأسف. راجعتُ صفحة الدكتور الراحل في الموقع الألكتروني لجامعة كالغيري الكندية فشاهدتُ صوراً عديدة تجمعه مع أسرة قسم العلوم السياسية، كما راجعت القائمة الكاملة لمؤلفاته فضلاً عن حوار معه.
لو سألنا معظم العراقيين المثقفين: أيّ الكتب تراه أفضل لقراءة تاريخ العراق السياسي؟ لأجابوا: كتاب (العراق) بأجزائه الثلاثة لحنّا بطاطو. كتاب بطاطو رائع بالتأكيد؛ لكنّه ليس وحيد ميدان إشتغاله. تاريخ العراق السياسي هو تاريخ حزبي في مجمله إذ الأحزاب هي التي تمسكُ برقبة الدولة وتقودها أنى شاءت بدل أنّ تكون الدولة شاخصاً معنوياً مستقلاً عن التشكيلة الحزبية. العهد الملكي كان أفضل لجهة فصل الدولة عن القيادة الحزبية؛ لكنّ حقب ما بعد 14 تمّوز قوّضت إستقلالية الدولة عن الأحزاب وبخاصة بعد 1968. المعضلة الحزبية في العراق هي أنّ الأحزاب تلعب لعبة صفرية خشنة لا مجال فيها للتعاون والتشارك؛ ومن الطبيعي أن تقترن هذه اللعبة الصفرية بالدم. هنا يكمن السبب في إنجذاب القارئ العراقي لكتاب بطاطو؛ إذ هو للمرة الاولى يقرأ عن تاريخ العراق السياسي بعقل بارد، تحليلي، أكاديمي كتبه كاتب لا ينتمي إلى جماهير أيّ حزب منها بل هو أستاذ في جامعة برينستون الأمريكية. الغريب أنّنا أهملنا قراءة مؤلّفات رصينة مكتوبة بالمواصفات الرفيعة لكتاب بطاطو لأسباب كثيرة، ربما من بينها عدم ترجمة أعمالهم إلى العربية، وتنائي أسمائهم عن فضاء ثقافتنا الرسمية والشعبية. مؤلّفات الدكتور الجميل تندرج في هذه الشريحة حيث تناول جوانب متعدّدة من تاريخ العراق الثقافي ولم يقتصر على الجوانب السياسية. كذلك فعل الراحل الدكتور (طارق إسماعيل) في كتبه الممتازة.
عندما نسعى لقراءة تاريخ العراق من بوابة السياسة وتشكيل الدولة لا بأس من قراءة كتب المذكرات والسير الذاتية الشخصية لكبار السياسيين والحزبيين؛ لكن من الواجب عدمُ إغفال أنّ الكتابة بدم حار عن وقائع ساخنة ستكون في الغالب مفتقدة للهدوء التحليلي الذي يرى الصورة كاملة ويسعى لبلوغ الأصول الأولى بدلاً من الإكتفاء بالوقائع الدرامية.
عقب غيبته الطويلة في المنافي بعد تركه العراق منذ أواسط ستينات القرن الماضي عاد الراحل دكتور طارق سماعيل إلى العراق لفترة قصيرة بعد عام 2003؛ لكنّه أسرع بمغادرته بعد ان غسل يديه من إمكانية تعافيه للأسف، وربما هذا ما دفعه لتأليف كتابه عن الدولة الفاشلة في العراق. هذا هو واقع الحال، وسيكون إفتئاتاً على الحقيقة لو شئنا وصف العراق بغير هذا الوصف.
أظنّ لو ترجمنا كتب الراحل المؤلفة بالإنكليزية وبخاصة كتابه أعلاه عن العراق فسيكون هذا العمل أفضل تقدير وامتنان وتكريم لإسم الراحل وجهده البحثي بعد رحيله وهو يحلم بعراق ضاعت فيه مواريثه السياسية المحترمة وتقاليده الثقافية الرصينة، وانتهى ليكون دولة فاشلة بعد أن أضاع سياسيوه إمكانية أن يكون القاطرة التي تقود كامل منطقة الشرق الأوسط في جبهات السياسة والثقافة والإقتصادا والتنمية والعلوم والتقنيات.
عجبتُ لسياسي لا تطرف له عين وهو يرتضي أن يوصف بلده بالدولة الفاشلة. تخيّلوا معي ما الذي سيفعله الياباني أو الكوري أو الصيني لو قيل له أنّه يجلسُ على كرسي القيادة في دولة فاشلة؟