بغداد / تبارك المجيد
يشهد القطاع الصحي في العراق تحديات مستمرة نتيجة الاعتماد الكبير على استيراد الأدوية، مما يثقل كاهل الاقتصاد الوطني ويؤثر على استدامة النظام الصحي. في هذا السياق، يتزايد الحديث عن أهمية تعزيز الصناعة الدوائية المحلية كحل استراتيجي لتلبية احتياجات السوق وتقليل الاعتماد على الخارج، ما يسهم في تحقيق الأمن الدوائي والاستقرار الاقتصادي للبلاد.
في 31 تشرين الأول 2024، أكد رئيس مجلس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، افتتاح مصنعين جديدين للمضادات الحيوية والمثبطات المناعية من القطاع الخاص، مشددًا على أهمية النهوض بالصناعة الدوائية لتحقيق الأمن الدوائي للعراق. وأوضح في بيان صادر عن مكتبه الإعلامي أن هذا التطور يأتي في إطار برنامج حكومي يهدف إلى توطين الصناعات الدوائية ضمن أولويات الحكومة، حيث أعلن عن زيادة مؤشر العقود الدوائية للقطاع الخاص.
وأشار السوداني إلى أن المصنعين الجديدين سيساهمان في تغطية حوالي 25% من حاجة العراق من المضادات الحيوية الحيوية (السيفالوسبورينات)، وهي أدوية أساسية ومنقذة للحياة. كما أوضح أن خط الإنتاج الجديد سيشمل ملايين الجرعات من الكبسولات والحبوب والمعلقات، بالإضافة إلى الحقن العضلية والوريدية، مما يساهم في تلبية احتياجات المستشفيات ويعزز من الاكتفاء الذاتي في هذا المجال.
وأعلن أيضًا عن خطة طموحة لإنشاء ثلاث مدن صناعية متخصصة في صناعة الأدوية بنظام الاستثمار، مع اهتمام من حوالي 12 إلى 15 دولة لإقامة شراكات في هذا القطاع.
أهمية الصناعة الدوائية المحلية
في إطار توجه الحكومة العراقية نحو تعزيز القطاع الصحي والصناعة الدوائية، تحدث الخبير في مجال الدواء، الدكتور مصطفى الهيتي، عن أهمية هذا القطاع بوصفه جزءًا حيويًا من حياة الناس ويتطلب دقة متناهية ولا يحتمل أي نسبة من الخطأ.
وأكد الهيتي لـ(المدى)، أنه «لضمان تنفيذ هذه الرؤية، على وزارة الصحة وضع خارطة دوائية جغرافية تشمل قائمة بالأدوية الأساسية المطلوبة، والتي تقارب 500 صنف من الأدوية المهمة لحياة الناس، يجب توجيه المصانع لإنتاجها محليًا بدلًا من الاقتصار على الأدوية التقليدية». وأوضح أنه يوجد حاليًا في العراق 24 مصنعًا دوائيًا قائمًا و23 آخر تحت التأسيس، لكنه يشدد على ضرورة تنويع الإنتاج لتلبية الحاجة المحلية.
كما تحدث الهيتي عن الحاجة لدعم قطاع التعليم لتخريج كفاءات قادرة على المساهمة في الصناعة الدوائية، مشيرًا إلى ضرورة تخصيص المزيد من المقاعد الدراسية في الصيدلة الصناعية، ودعم البحث في مجالات التكافؤ الحيوي، التحليل المختبري، وتركيبات الأدوية. وأكد على أهمية التعاون بين وزارتي التعليم العالي والصحة في هذا الإطار لتعزيز الكفاءات المتخصصة بالصناعة الدوائية.
من جانب آخر، دعا الهيتي إلى تسهيل إجراءات إنشاء مصانع جديدة، عبر تقليل التوقيعات والموافقات المطلوبة، حيث ذكر أن إنشاء مصنع جديد قد يتطلب 77 توقيعًا، في مشقة بيروقراطية تثقل المستثمرين. كما دعا هيئة الاستثمار إلى توفير الأراضي اللازمة للصناعة الدوائية في مختلف المحافظات، بحيث يتم توزيع المصانع جغرافيًا وفق سياسة تنموية تعزز دور المحافظات، خصوصًا في المناطق الفقيرة مثل الديوانية.
وأشار الهيتي إلى أهمية إعفاء المواد الأولية المستخدمة في الصناعة الدوائية من الرسوم الجمركية لدعم الإنتاج المحلي وتقليل تكاليفه. وأعرب عن تقديره لجهود وزارة الصحة التي دعمت المنتج الوطني وفضلته على الأجنبي، حيث أكد أن العديد من المصانع المحلية تلتزم بقواعد التصنيع الجيد وتنتج أدوية وفق معايير عالمية.
الفوائد الاقتصادية والطبية لتوطين الصناعة الدوائية
أكد الصيدلي حمزة أحمد في حديثه مع (المدى) على أهمية إنشاء المدن الصناعية المتخصصة في الصناعات الدوائية في العراق، مشيرًا إلى الفوائد الكبيرة التي ستنعكس على كلا المستويين الطبي والاقتصادي. يبين أن «من الناحية الطبية، تساعد هذه المدن في تلبية احتياجات السوق المحلية من الأدوية والعلاجات الضرورية، مما يقلل من الاعتماد على الأدوية المستوردة ويعزز الأمن الدوائي. من الناحية الاقتصادية، يسهم توطين صناعة الأدوية في تقليل خروج العملة الصعبة من البلاد، ما يساهم في حماية الاقتصاد الوطني».
أوضح أحمد أن «العراق كان يمتلك قاعدة صناعية دوائية قوية قبل عام 2003، حيث كانت المعامل المحلية قادرة على تغطية جزء كبير من احتياجات السوق المحلية والقطاعات الصحية الحكومية. إلا أن هذا القطاع تراجع بشكل ملحوظ بعد 2003 بسبب البيروقراطية والإهمال، إضافة إلى تراجع التقنيات وظهور مشكلات مثل المحاصصة والفساد التي أثرت سلبًا على تسويق الأدوية المحلية ودفع العديد من المستثمرين بعيدًا عن القطاع».
وأشار أحمد إلى أن «السوق المحلية اليوم تعاني من وفرة الأدوية الأجنبية المستوردة، وهو ما يخلق منافسة غير متكافئة مع المنتجات المحلية. كما أن استيراد الأدوية بهذه الكميات الكبيرة يؤدي إلى تهريب العملة الصعبة خارج العراق، مما يؤثر سلبًا على الاقتصاد الوطني. وأضاف أنه كان بالإمكان تعزيز الصناعة المحلية لتقليل الاعتماد على الاستيراد».
من التحديات التي يواجهها القطاع الدوائي المحلي، أشار أحمد إلى «ضعف التسويق، حيث يعتمد العديد من الأطباء على الأدوية الأجنبية بسبب الترويج الكبير لها من قبل الشركات الأجنبية. ورغم هذه التحديات، بدأ بعض الشركات المحلية، مثل شركة (بايونير) في السليمانية، بتحقيق حضور قوي في السوق بفضل جودة منتجاتها واستراتيجيات التسويق».
وأضاف أحمد أن الحكومة بدأت تتخذ خطوات لدعم الشركات المحلية، مثل إصدار توجيه يلزم المستشفيات الحكومية بتفضيل الأدوية المحلية إذا كانت متوفرة، وهو ما يعزز من فرص نمو الصناعة المحلية.
التحديات والحلول الستراتيجية
أكد الدكتور أسامة هادي حميد، المتحدث الرسمي باسم نقابة صيادلة العراق، أن القطاع الصحي في العراق يعاني من نقص في التخصيصات المالية اللازمة لتطوير خدمات الرعاية الصحية، مشددًا على ضرورة توفير الدعم المالي الكافي لمساندة وزارة الصحة في تأمين الأدوية والمستلزمات الطبية الضرورية. وأوضح حميد أن النقابة تعتبر توفير هذه التخصيصات خطوة محورية لتلبية الاحتياجات الصحية المتزايدة للمواطنين.
وفي حديث لـ(المدى)، أشار حميد إلى أن «العراق يمتلك حاليًا 28 مصنعًا دوائيًا موزعة بين القطاعين الحكومي والخاص، تنتج مجموعة واسعة من الأدوية بدءًا من المسكنات والمضادات الحيوية وصولًا إلى أدوية الأمراض المزمنة والأورام». كما ذكر أن «هناك مشاريع جديدة في مجال التصنيع الدوائي تنتظر التراخيص اللازمة، ما يعكس توجه الدولة الجاد نحو دعم هذا القطاع الحيوي».
وأشاد حميد بجهود المستثمرين المحليين ورغبتهم في المساهمة في تطوير القطاع الصحي، مشيرًا إلى أن «نقابة الصيادلة تعمل بالتعاون مع الجهات الحكومية، مثل وزارتي الصحة والصناعة، لتقديم تسهيلات تدعم الإنتاج الوطني للدواء وتقلل من الاعتماد على الاستيراد».
وأوضح أن «دعم الحكومة للصناعة الدوائية من خلال التسهيلات المالية والإدارية سيسهم في تجاوز العقبات الروتينية وتسهيل الاستثمار في هذا القطاع». وأكد أن «هذه الخطوات من المتوقع أن تُحدث طفرة نوعية في مستوى الإنتاج المحلي، مما سينعكس إيجابًا على استقرار السوق المحلية من خلال توفير الأدوية بأسعار مناسبة وتحسين الفرص الاقتصادية بتوفير وظائف جديدة للكفاءات العراقية».
أوضح حميد أن هذه الخطوات نحو توطين الصناعة الدوائية في العراق ستعزز من الأمن الدوائي الوطني خلال السنوات الخمس المقبلة، مؤكدًا أن تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال يمثل نقلة نوعية لضمان استدامة الرعاية الصحية ورفع مستوى الصحة العامة.
دعوات لتعزيز الصناعة الدوائية المحلية
وفي هذا السياق، دعا الخبراء إلى دعم صناعة الأدوية المحلية، خاصة الأدوية المتعلقة بالأمراض المزمنة، وتنظيم أسعار الأدوية لضمان حماية الصناعة الوطنية، في الوقت الذي يجب فيه تعزيز إنتاج المستلزمات الطبية داخل العراق لتلبية احتياجات السوق وتقليل الاستيراد.
وأكدوا على ضرورة وضع خطة استراتيجية محكمة لإنشاء المدن الدوائية وتعزيز صناعة الأدوية المحلية لضمان استدامة القطاع الصحي وتقليل الاعتماد على الاستيراد الباهظ.
خبراء: توطين الصناعة الدوائية يعزز الاقتصاد ويقلل الاعتماد على الاستيراد
نشر في: 11 نوفمبر, 2024: 12:18 ص