TOP

جريدة المدى > عام > أدباء وفنانون كيف رأوا طفولتهم ومكانهم الأول

أدباء وفنانون كيف رأوا طفولتهم ومكانهم الأول

إذا حملت طفولتك معك، فلن تكبر أبدًا

نشر في: 12 نوفمبر, 2024: 12:01 ص

استطلاع/ علاء المفرجي
تكمنُ أهمّيّة المكان والطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون، فالمكانَ بفضاءاتِهِ الممتدّةِ ذا عمقٍ ارتباطيٍّ بالنّصِّ الأدبيِّ والفني، فلا حدودَ تحدّهُ ولا نقاطَ نهاياتٍ ينتهيْ عندَها فيضطرُّ الأديبُ أو الفنان إلى الاكتفاءِ بالبحثِ والوقوفِ، فتتجلى في نصوصهم الأدبية والفنية نفاصيل المكان واحداث الطفولة.
ولا شك أن طفولة المبدع ترتبط بشكل لا انفصام فيه مع المكان وهي التي تحرك الرغبة لما يكون اليه فيما بعد. الأدباء والفنانين الذين حاورناهم تحدثوا عن أثر المكان والطفولة في بناء شخصياتهم.
إجابات عدد من من أدبائنا وفنانانينا عن الطفولة والمكان لخصتها هذه الأسطر:
الروائي ناطق خلوصي
يحيلني هذا السؤال إلى الماضي البعيد وسنوات طفولتي وظروف نشأتي الأولى والعوامل التي أسهمت في بلورة نشأتي الأدبية على نحو خاص. كنت قد ولدت ونشأت في " بلد"، وهي مدينة صغيرة تقع على حافة الريف تجمع بين خصائص الريف والمدينة معاً ولم تتوفر فيها مقومات حركة أدبية واضحة المعالم، لكنها تنطوي على ما يجعل المرء ينشّد إليه شأنها شأن المدن الأولى التي تركت بصماتها على الذين هم من أمثالي. كنت في الخامسة من عمري حين توفي أبي وهو في الثامنة والعشرين وكان يعمل موظفاً صغيراً في المحاكم. لقد اكتشفت أنه كان يهوى الأدب ويكتب القصة. بحثت في الماضي البعيد وعلمت أنه نشر قصصاً في أواخر ثلاثينات القرن الماضي فحصلت على عنوان احدى القصص تحتفظ بها ذاكرة قريبي واستاذي الدكتور صفاء خلوصي فكلفت صديقاً كان يعد الدكتوراه في اختصاصه ويواصل الذهاب إلى المكتبة الوطنية بأن يبحث عما كان أبي قد نشره فاستطاع الحصول على قصة منشورة في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، استنسخها لي. فأعدت نشرها قبل سنوات.
اكتشفت على مستوى العائلة اهتماما بالقصة القصيرة وكان لخالي القاص الرائد عبد المجيد لطفي الدور الرئيسي في استمالتي نحو الأدب بشكل عام والقصة بشكل خاص. فهو الذي قادني وفي وقت مبكر من حياتي الأدبية إلى واحة القصة الواسعة وقد اعتمدته نموذجا اقتديت به. عرف عنه أنه كان متعدد الاهتمامات. فقد كتب القصة والرواية والمسرحية والعمود الصحفي والترجمة ( ترجم قصصاً قصيرة عن التركية) وكتب الشعر بجميع اصنافه، فاعتمدته نموذجا وحاكيته في ذلك باستثناء الشعر.
كان الولع بالقراءة الأدبية قد لازمني في سن مبكرة وأنا طالب في الاعدادية المركزية في بغداد. وحين كنت أعود إلى ( بلد) في العطلة الصيفية ولم تكن الصحف اليومية تصل إلى هناك كنت استخدم دراجتي الهوائية للذهاب إلى محطة القطار وهي تبعد بضعة كيلومترات عن المدينة وأشتري صحيفة أو اثنتين من عربة الحانوت الملحقة بالقطار، وهذه احدى صور اهتمامي بالأدب منذ سن مبكرة من حياتي. الدكتور صفاء خلوصي شجعني على ممارسة الترجمة ونشرها. فبين عامي 1956 و1958 درّسنا اللغة العربية والترجمة في المرحلتين الأولى والثانية في قسم اللغات الأجنبية في دار المعلمين العالية ( كلية التربية فيما بعد) وكان يوزع علينا مقاطع شعرية وقصصية باللغة الانكليزية لنترجمها إلى العربية وقد اكتشف اهتمامي بالترجمة من خلال ذلك فوجهني لإرسال ما اترجم للنشر فوجدت الفرصة متاحة في صفحة تعنى بنتاجات الشباب.
الشاعر غريب اسكندر
أوّلُ علاقة لي بالشعر بدأت وأنا في سن صغير جداً ربما في التاسعة من عمري. فقد كنتُ طالباً في الرابع الابتدائي وأكتب ما أسميه شعراً على دفاتر المدرسة وأسميها (دواوين): دجلة، الفرات، بغداد، القدس وهكذا. وكنتُ حساساً جداً لما أكتب، أتذكر مرة كنت في سطح البيت وأراد أحد اخواني أن يفتح أحد دفاتري (دواويني) التي نسيتها في الأسفل وصُعقت للمشهد حيث أردت أن أرمي بنفسي من السطح كي امنعه من قراءة ما اكتب!
اللحظة الثانية كنت في الصف الثالث المتوسط فكلفنا مدرس اللغة العربية بكتابة بحث صغير "تقرير" في الأدب فاخترت الكتابة عن الشاعر الرائد بدر شاكر السياب (1926-1964) فذهبت الى المكتبة العامة وقرأت كتاباً عن حياته وقصائده وتأثرتُ كثيراً بشعره (وحتى الآن هو أحد شعرائي المفضلين عربياً وعالمياً) وقد درسته مترجَماً في الماجستير ومترجِماً في الدكتوراه. وما زلت الى الآن أتذكر هذه الأبيات الحزينة والجميلة من قصيدته "وصية من محتضر" من ديوانه "منزل الأقنان" التي تصدرت ذلك البحث الصغير.
أما اللحظة الثالثة فهي دخولي كيلة الآداب بجامعة بغداد لدراسة الأدب العربي. كانت أياماً مليئة بحب الشعر والمعرفة على الرغم من صعوباتها، أذ تعرفتُ على جمع من الأدباء فكنّا نقضي الساعات الطوال في متابعة الشعر وكتابته والنقاشات الحادة حوله كل ذلك كان يجري في الهامش إذ لا مكان لنا في بلد يعيش تحت قبضة حديدية قلَّ نظيرها في التاريخ، والحرب يومئذ كانت في أوجّها. وفي تلك المرحلة السوداء ازداد إيماني أكثر بالشعر وبات يلازمني كظلي أو أكثر من ذلك! فأنا مقيم فيه وهو شغلي الشاغل حياتياً وأكاديمياً. وكلما عَتَمت الحياة التصقت أكثر بالشعر: نبوءة وحلماً. إنّه الضوء الذي يضيء العتمة: عَتَمَة الروح والمكان والزمان. ويظل الشعر بالنسبة إليَّ شيئاً سريّاً وارتجالاً غامضاً ورحلة اكتشاف عصية على الفهم!
الفنان اديب مكي
اول شيء اعتز، بتذكره، تلك الرحلة التي اخذني بها الوالد مشيا على الاقدام، ليريني بناية المتحف العراقي (قبل الافتتاح)، فرأيت ذلك التمثال الاشوري المنصوب في مقدمة البناية، اختزنت صورته، وحين عدنا عمدت إلى شيء من الطين، وصنعت منه تماثيل مماثلة صغيرة، لذلك العملاق. الشيء الثاني، اذكر ه (كان ذلك قبل سن الدراسة) اني رسمت حصانا بقوائم ممدودة وحوافر ثابتة، أسرعت إلى غرفة اخي الكبير، الفنان طالب مكي، لأريه ما قد رسمت، سألني طالب: هل هذا الحصان يركض، ام هو واقف؟
بل يركض.
اذن يجب أن ترسم حوافره، معقوفة إلى الوراء.
كان هذا اول درس لي في الرسم، بعدها تعهدني اخي الفنان المعروف طالب مكي بالدعم. والتشجيع، لم نكن اخ صغير وأخ كبير، لقد كنا اصدقاء، عرفني، حين كبرت، على زملائه واصدقائه من الفنانين (جماعة المجيدية) ثم اخذ يأخذني معه إلى جمعية الفنانين، عند إفتتاح مقرها الحالي، أثناء المعارض او، في أمسيات سهرانة مع أصدقائه. وفي سنة ١٩٧٠، اخذني طالب معه إلى مقر مجلتي، ا ول مجلة أطفال، جادة في العراق، كان ذلك اليوم نقطة تحول هامة في حياتي، لقد أصبحت بعد ذلك اليوم رسام comic.
بعد أن ذهبت مع اخي طالب إلى مجلتي، تعرفت على الرسامين فيها: صلاح جياد، فيصل لعيبي، بسام فرج، غسان فيضي، عصام الجبوري، ميسر القاضي، ومؤيد نعمة، صرنا أصدقاء من اليوم الأول، كانوا كلهم أساتذة وتلاميذ، فالتجربة كانت جديدة على الجميع. تأخرنا بطرق رسم الكومكس. من المجلات الغربية التي سبقتنا في هذا المضمار، لكن معلمنا الا ول، كان طالب.
كنا نرسم ونعرض عليه رسومنا، فيوافق عليها او لا يوافق. ظللت ارسم لفترة طويلة، لكن تجاربي، كان يرفضها رئيس الرسامين، اخي طالب، مللت، وانتابني غضب، فتركت العمل.
بعد فترة قصيرة، لامني طالب وقال لي، انت رسام جيد، وبرفضي رسوماتك، اني أريدك أن تثبت جدارتك، وتصبح مثل بقية الرسامين، قويا، عد معي، ارسم واستمع لنصائحي، عدت معه واستمعت لنصائحه ونجحت، واصبحت ضمن الرسامين الذين اسسوا.
وفيما يخص اول فيلم كارتون، عراقي، اسمه (كرة القدم الأمريكية)، وهو فيلم سياسي بحت، أرادوا أن يشركوه، في مهرجان فلسطين للأفلام والبرامج التلفازية، 1972، اختاروا اثنين من رسامي الكاريكاتير. بسام فرج ومؤيد نعمة، سألوهما أن يختارا رسام ثالث ليكون معهما، فاختاراني انا.
كانت تجربة عجيبة، لم يكن أحدنا يملك اي تجربة في فن الرسوم المتحركة، طلبوا منا اعجازا، ارونا فالبداية، فيلما تشخيصيا، عن كرة القدم الأميركية، بط لة، بيرت لانكستر، وارونا كيف تقطع اللقطة، ذات الثانية الواحدة، إلى ٢٤ frames، هذا ما كان هناك، استوعبها الفكرة، كان دوري، هو رسم الجمهور، وحركة الشفاه lipsink أثناء الحوار، كان كل ما أملك، مرآة، ومعرفة كم تستوعب الكلمة، من frames.
لم ينضج الفيلم في الوقت المحدد، فلم يشترك بالمهرجان الأول، لكنهم اشركوه، بالمهرجان الثاني، وصاروا يعرضونه في المناسبات الوطنية والسياسية، وما اكثرها، يومئذ.
الروائية رغد السهيل
بالتأكيد الطفولة هي التربة الأولى التي تحتضن بذور شخصيتنا، فمنذ البداية ظهر عندي شغف باكتشاف عالم الأدب، البيت كان له دورا كبيرا ثم المدرسة ثم المجتمع الذي عشت فيه حيث نشأت في الكويت وأكملت جل دراستي فيها، ففي الابتدائية اتذكر بالصف الأول الابتدائي كان لدينا درس اسمه القصة فتقرأ علينا المعلمة قصة وحين استمعت الى قصة سندريلا انهمرت دموعي بغزارة لعذابات سندريلا مع زوجة أبيها فكنت أنحني بحجة تعديل رباط حذائي كي لا يرى الآخرون دموعي، وبدأت مع قصص المكتبة الخضراء للأطفال، ولعبت أمي رحمها الله دورا كبيرا كانت تشجعني ولأنها مدرسة لغة فرنسية وتحب فولتير كانت تحدثني عنه وأحيانا تترجم بعض السطور من قصصه لي، فبرز عندي فضول من يكون فولتير؟ كما أن والدي كان قارئا نهما لكتب التراث العربي لم يكن يعترف لا بقصة ولا رواية ولديه مكتبة ثرية بالبيت رحمه الله هو الذي عودنا قراءة الصحف كان يعود من العمل ومعه صحيفة السياسة والقبس الكويتيتين، فكنت أقص المقالات الأدبية وألصقها بدفتر خاص عندي، وفي مرحلة المتوسطة في درس الانشاء كنت أستأذن المعلمة ان أكتب بطريقتي الخاصة ولا أستعين بالأفكار التي تشرحها للطالبات لم أكن أحب ان أكرر الفكرة المتداولة بينهن وكانت مدرستي أبلة عزيزة الطرابلسي أطال الله عمرها وهي أساسا شاعرة سورية كانت تشجعني كثيرا وتطلب مني قراءة ما كتبت أمام الطالبات مما خلق عندي جرأة على طرح أفكاري، أما مكتبة المدرسة التي ضمت أنواعا متنوعة من الكتب فكنت من روادها المدمنين خصوصا بعد تحول درس القصة بالابتدائية الى درس المكتبة حين تصحبنا المعلمة نحو القاعة المكتظة بالكتب لنختار ما نشاء وتطلب منا كتابة ملخص عن قرآتنا، وأنا أحدثك الآن كأني أراه ثانية أمام عيني كفلم لمراهقة كانت تعلق صور جبران خليل جبران ومي زيادة في غرفتها بدلا من صور الفنانين كما تفعل المراهقات ذاك الحين، واستمر هذا معي للمرحلة الجامعية في الكويت فرغم اختصاصاتنا العلمية كونا نحن بضعة طلبة محبين لعالم الأدب ما يشبه الرابطة أطلقنا عليها المجموعة الأدبية كنا نعقد اجتماعات اسبوعية، كانت معنا الشاعرة سعدية مفرح والروائي ناصر الظفيري رحمه الله والناشطة هدى الدخيل غيرهما كثير، ووجدنا التشجيع فمجلة آفاق الجامعية بالكويت منحتنا صفحتين لننشر كتاباتنا فيها مقابل مكافئات مالية رمزية، لكنني لم آخذ الأمر على محمل الجد وتعاملت معه كهواية أو شغف، فمن يقرأ للكبار أمثال دوستويفسكي وماركيز وبورخيس وغيرهم سيتردد ألف مرة بدخول هذا العالم، الذي بقيت أنظر إليه بنوع من القدسية والهيبة، ثم أخفيت محاولاتي الأدبية في أدراج المكتب حين انخرطت بالدراسات العليا بعدها.
الباحث والفوتوغرافي كفاح الامين
ولادتي ببغداد لعائلة سياسية ومثقفة في آن واحد، في بيت ضم بين جدرانه مكتبة كبيرة، منوعة وممتعة أضافة إلى مكتبة موسيقية من مقامات وأغاني عراقية وبغدادية حصرا، هذه المكتبة الموسيقية تحليك إلى الجو البغدادي الذي ولدت فيه بمحلة باب الشيخ وتحديدا منطقة (سراج الدين) والذي كان بيتنا يبعد بضعة أمتار عن مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني.
هنا كان كوني الصغير الكبير حيث تنوع الثقافات والأقوام، تمرنت عيني على تقبل الاخر من خلال مشاهداتي وانا طفل لزوار مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني حيث العرب والكورد والهنود والإيرانيين والطاجيك وغيرهم، وجوه تألفت معها وهم يلقون علينا تحايا الصباح كلما رمقتهم بابتسامة وانا أعبر عبر الطاق المؤدي إلى مدرستي الابتدائية (مدرسة الكنانية) في فضوة عرب.
باب الشيخ هي مخيلتي الاولي مع عشق والدي (عمر محمد أمين) لمقامات القبانجي وأغاني والدتي (شكرية مصطفى) بصوتها الجميل لزهور حسين وسليمة مراد مع مقامات وأغاني كوردية حملتها معها من قريتها في سفوح جبال هيبت سلطان المطلة على مدينة أجدادي (مدينة كويسنجق).
المكتبة الكبيرة لوالدي فتحت أفاق المعرفة لدي إضافة إلى تعلقي منذ طفولتي بقراءة الجرائد التي كان والدي (المعلم والمقاول بعد ذلك) يواظب على شرائها يوميا، والدي الشيوعي الذي سجن مع الرفيق فهد والفريد سمعان في نفس السجن، والدي الذي خبر السجون والمرارات، المقاول الذي عمل مع جواد سليم في نصب الحرية ونصب الجندي المجهول وعمارة الدامرجي في شارع الرشيد، كون مصغر كان بيتنا وكنت فيه المغامر الذي مازال يبحث في ثنايا ذاكرته عن ماضا لم يسحق!
بيوت باب الشيخ البغدادية وأزقتها ورائحة الماضي المنبعث منها، شيوخها وشقاواتها مقاهيها ومثقفيها ونسائها ومقاماتها وتنوعها الكبير بكونها جوهرة بغداد وأم الأقوام في بغداد، الاقوام التي تحج اليها من كل حدب وصوب، كل ذلك زرع في روحي محبة كبيرة للناس والدرابين والموسيقى، لتقبل الاخر والتسامح والتنوع أعني كلها كونت أنسانيتي الاولى ووسعت من مفاهيم وادراكي للكون وتنوع مشاربه وثقافاته.
الروائي جمال حسين علي
أدركت منذ الصِبا أن حياتي تغيّرت مع ارتباطي بالأدب. ومنذ سنواتي المبكرة، اعتبرته رحلة استكشافية إلى العالم. بينما بدأت حياتي الأدبية، عندما لا زلت صغيرًا جدًا لفهمها. فالطفولة كانت سعادة وعفوية، والمراهقة كانت حبّ، والباقي أدب… لكن متى حدث الأدب؟
لا يمكن العثور على الإجابة، فقد تراكمت عدة حقائق غير محسوسة حددها التغيير الجذري. ربما بعض الحقائق الواضحة جدًا التي لم أحسب نطاقها، لكنها لا تجد الإجابة على "متى"، على وجه التحديد. ففي تلك الأوقات المبكرة من عمر المرء، مجرد معرفتك لموهبتك، موهبة بحدّ ذاتها.
في البداية كتبت، ليس لكي أقول أشياء كبيرة أو جيدة، بل لأشغل نفسي وأرى أحلامي مكتوبة، ولم يكن طموحي في ذلك الوقت أن أكون كاتبًا، بل كانت طريقة أجيدها لكي أبقى وحيدًا قدر الإمكان.
لن أسرد قصتي، بل سأتحدث عن تجاربها وقِيَمها، فهي كقصة ليست ممتعة، على الرغم من تناغمها مثل العديد من القصص المختلَقَة؛ لها طعم المغامرة والجسارة والحماقة والحيرة، وبالطبع الجنون والحلم، بدأت الأدب والعلم في البحث، كطريقة أساسية للتعلّم، لذلك كوّنت فكرتي عن الناس والكون والفضاء والتاريخ بشقّ النفس وبشكل ذاتي. استمتعت بالكتب والقراءة والدراسة، ومن هذه الناحية، قد لا تكون قصتي مشوقة أو مُخترَعة، بل هي وليدة طموحات طفل وأحلام شاب وأمنيات رجل ربما لم يحقق انتصارات ملحوظة، غير إنه تجنّب هزائم حتمية.. لأن من الصعوبة هزيمة شخص اختار الصعود دائمًا.
لا أحب الإجازة، ولا أحتاج إلى عطلة. منذ أن كنت تلميذًا، أقرأ في العطلة أكثر. وأعتقد لو أتقاعد سأعمل أكثر أيضًا. ليس هناك ما هو أخطر من الملل والفراغ. لقد وجدت منذ طفولتي شيئًا أكرّس له وقتي وقلبي وروحي، وهو ما يلهمني ويعطي لحياتي معنى، وهذا مصدر ثرائي الذي لا تعادله أموال الدنيا.
منذ البداية، كانت الكلمات أكثر واقعية بالنسبة لي من الحياة الواقعية، وبالتأكيد أكثر إثارة للاهتمام.. ونظرًا لظروفنا الصعبة في الصِبا، فكلّ واحد له طريقته في الخروج من العالم السفلي. ففعلت ذلك عن طريق الكتابة.
قبل ان تغادر العراق للدراسة في موسكو في بداية الثمانينيات، كانت لك حصيلة من الابداع بثلاثة روايات وثلاثة مجاميع قصصية، انخرطت بعدها بالدراسة الصعبة (هل كانت خيارك من البدء) وبعدها تضاءل نشاطك الادبي.. هل أدخرت سنوات الانقطاع النسبي عن الأدب، للانطلاق بقوة فيما بعد الى عالمه؟
في مرحلة الدراسات العليا والمتقدمة وخاصة في كلية الفيزياء في جامعة موسكو، التي كان فيها ما لا يقل عن 17 أستاذًا مرشحين لنوبل في الفيزياء، وكما قال لي رئيس قسمي البروفيسور ألكسي براندت: حينما تعود إلى أهلك، أخبرهم أنك درست في كلية قدّمت 20‌% من الفيزياء للبشرية.
كان هذا التحدي الكبير الذي واجهته. وبالرغم من أني الأول على دفعتي ومن المتفوقين في جامعة البصرة، ودرّست فيها فيما بعد، إلا أني شعرت منذ المحاضرة الأولى في كلية الفيزياء بجامعة موسكو، إن الأستاذ قال كلّ الفيزياء التي تعلمتها بثلاثين سنة في غضون ثلاثين دقيقة. وهنا كان عليّ البدء من الصفر. وهذه البدايات تتطلّب الحفر والاكتشاف وسهر الليالي والوقت والمناخ الصعب في موسكو والمعيشة المرهقة في السكن الطلابي التي تشبه معسكرات الاتحاد السوفيتي وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية حيث كان البلد في حالة جمود وعلى حافة المجاعة تقريبًا، في السنوات الأخيرة من البيروسترويكا، وهذه الظروف مجتمعة، زادت من صعوبة الحياة على شخص انتقل بالكامل إلى أجواء وثقافة أخرى.
تاليًا كنت أتعلّم وأتدرب وأعمل نحو 17 ساعة في اليوم، لأكثر من أربع سنوات متتالية، لغاية ما بدأت التقط الأنفاس أثناء كتابة أطروحتي. وبالتوازي مع الفيزياء قرأت الأدب الروسي بلغته الأم لكبار الكتاب الذين أحبهم، وتعرفت على تشيخوف وديستويفسكي وتولستوي ونيكولاي غوغول وليرمنتوف وتورغينيف بلغتهم، وكم كان الفارق كبيرًا، وبالأخص بالنسبة للغة تشيخوف وديستويفسكي التي سحرتني بالروسية. وبالإضافة إليهم كنت أتابع الأدب المعاصر وما ينشر يوميًا واشتركت مع كل المجلات والصحف الأدبية الروسية التي كانت قوية للغاية في الحقل الأدبي والفني والثقافي عمومًا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هندل وثيودورا

العُثَّةُ… رواية جديدة للكاتب يوسف أبو الفوز

علم السرد والوسيط الرقمي

جائزة نوبل وجنون العظمة

الوهم كإلهام أدبي

مقالات ذات صلة

جائزة نوبل وجنون العظمة
عام

جائزة نوبل وجنون العظمة

توم هارتسفيلد*ترجمة: لطفية الدليميالفوزُ بجائزة نوبل يعدُّ -بالقناعة السائدة عالمياً- الإنجاز المهني الأعلى لكلّ مشتغل بالعلم. غواية الجائزة تبقى دوماً عظيمة إلى حدود قد تدفعُ بحاملها إلى الشعور بأنّ أفكاره ومحاججاته لا ينبغي أن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram