بغداد / تبارك المجيد
تعد محافظة البصرة واحدة من أبرز المناطق النفطية في العراق، حيث تمثل الثروة النفطية المصدر الأساسي لدخل البلاد. ورغم أهمية هذه الثروة في دعم الاقتصاد العراقي، إلا أن الأنشطة النفطية في البصرة حولت هذه النعمة إلى نقمة، وأصبح التلوث البيئي الناتج عن عمليات استخراج النفط وحرق الغاز المصاحب لها تهديدًا كبيرًا لصحة السكان.
بدأت عضو مجلس محافظة البصرة، وجدان المالكي، في حديثها مع (المدى) بالإشارة إلى أن "التلوث البيئي في المحافظة أصبح أزمة تؤرق حياة أهلها". وأوضحت أن "أبرز مصادر هذا التلوث هو حرق الغاز المصاحب لاستخراج المشتقات النفطية، وهو ما يسبب انبعاثات كربونية ضارة في الجو. وفي فصل الشتاء، تتفاقم المشكلة مع سقوط الأمطار، حيث تتراكم السموم على التربة، مما يؤدي إلى تلوث الأراضي الزراعية والمياه".
وحسب المالكي، فإن التلوث البيئي في البصرة لا يقتصر على تدهور البيئة فقط، بل له تداعيات صحية خطيرة على السكان. فقد شهدت المحافظة ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي، مثل الربو، وكذلك أمراض العيون مثل الماء الأبيض. وقالت المالكي إنه من المعتقد أن هذه الأمراض ترتبط بهبوط المناعة نتيجة للتعرض المستمر للملوثات البيئية.
وأضافت، أن "المشهد الصحي أصبح أكثر تعقيدًا مع تزايد الحالات المرضية الأخرى، مثل مرض السكري، فضلًا عن ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية والفشل الكلوي. وتعتبر المناطق الشمالية من البصرة، التي تضم العديد من شركات النفط ومعامل حرق النفايات، الأكثر تضررًا من هذه التأثيرات السلبية".
إحدى النقاط التي شددت عليها المالكي هي غياب الدعم الحكومي الفعلي في مكافحة الملوثات البيئية، حيث اعتبرت أن الحكومة لم تبذل جهودًا ملموسة للحد من الانبعاثات السامة التي تنبع من حقول النفط. وفي هذا السياق، عبرت عن أملها في أن تتمكن الشركات العاملة في حقول النفط في الرميلة من القضاء على الغاز المصاحب بحلول عام 2026. إلا أن المالكي لم تخفِ استياءها من بطء سير العمل، مؤكدة أن نسبة الإنجاز التي تم الإعلان عنها والتي تبلغ 55% قد تكون مبالغًا فيها.
وتحدثت أيضًا عن التناقضات الكبيرة بين دور البصرة كممول رئيسي لخزينة الدولة من خلال النفط، وعدم وجود استثمارات حكومية في مجال الرعاية الصحية. في إشارة إلى أنه رغم أن شركات النفط في شمالي البصرة كانت قد تعهدت ببناء مستشفى لمعالجة الأمراض الناتجة عن التلوث، إلا أن المشروع توقف بسبب خلافات حول قطعة الأرض المخصصة له.
أكدت المالكي أن البصرة بحاجة ماسة إلى إجراءات عاجلة للتصدي لهذه الملوثات. وشددت على أن هذه الأضرار لن تقتصر على البصرة وحدها، بل ستتسع لتؤثر على البيئة العراقية ككل على المدى البعيد، مما يستدعي اتخاذ تدابير سريعة وفعالة لحماية الصحة العامة والبيئة.
الوضع "خطير"!
حذر خبير البيئة في جامعة البصرة، الدكتور شكري الحسن، من أن الوضع البيئي في المنطقة أصبح خطيرًا بشكل متزايد، مما يهدد صحة سكانها والنظام البيئي بشكل عام. وقال الحسن في حديثه مع (المدى) إن "البصرة لم تعد آمنة للعيش بسبب التلوث الذي يطال جميع جوانب الحياة في المنطقة".
وأوضح الحسن أن "الأنهار التي كانت تشكل الأساس البيئي لتنوع الحياة أصبحت الآن غير صالحة للاستخدام البشري"، مشيرًا إلى أن هذه التحولات تسببت في معاناة شديدة للسكان المحليين الذين يعتمدون على المياه العذبة للزراعة والشرب. وأضاف أن "ملوحة التربة وتراجع أعداد الكائنات الحية في المنطقة أصبحت من الظواهر المقلقة التي تضع ضغوطًا كبيرة على حياة السكان".
وأشار إلى أن "تلوث مياه شط العرب يمثل أحد التحديات الكبيرة في البصرة، حيث لا يزال تدفق مياه الصرف الزراعي والمخلفات الصناعية والمياه الثقيلة يتزايد دون أية معالجة، مما حول الشط إلى مكب ملوث". وبيّن أن "التلوث في مياه شط العرب، الذي لم تتم معالجته، يؤثر بشكل كبير على الحياة البرية والمائية ويعزز من خطر الأمراض".
وكشف الحسن عن مصدر آخر من مصادر التلوث البيئي في البصرة، وهو مخلفات الأسلحة والحروب السابقة التي باتت تمثل "مقبرة كبيرة" لمخلفات الذخائر. وأوضح أن "هذه الملوثات، بما في ذلك المواد الكيميائية والمعدنية، تساهم في زيادة نسبة الإشعاع في المناطق التي تتركز فيها، مثل قضاء شط العرب والمناطق الأخرى جنوبي وشرقي المدينة".
وأضاف الحسن أن الألغام القديمة التي لم يتم التخلص منها بشكل صحيح تتحول إلى معادن ثقيلة بسبب تقادم الزمن، ما يساهم في تلوث التربة بشكل كبير. هذه العوامل، وفقًا للحسن، تؤدي إلى تدهور جودة الحياة في المنطقة، مما يزيد من معاناة السكان.
على الرغم من الوضع المأساوي، أعرب الحسن عن تفاؤله بإمكانية القضاء على التلوث إذا تم اتخاذ خطوات فعّالة، مثل إيقاف مصادر التلوث أو إنشاء محطات معالجة مياه كبيرة ومتطورة. لكنه شدد على أن الإجراءات الحالية غير كافية، وأكد ضرورة تفعيل القوانين والتشريعات لحماية البيئة في البصرة بشكل عاجل.
دعا الحسن جميع الجهات المعنية، بما في ذلك الحكومة والمجتمع المدني، للعمل معًا لإنقاذ بيئة البصرة. وأكد أن هذه الخطوات ليست ضرورية فقط لحماية البيئة، بل هي أيضًا في مصلحة السكان المحليين لضمان مستقبلهم الصحي والعيش في بيئة آمنة.
الناشط البيئي علي قاسم حذر أيضا خلال حديثه مع (المدى)، من الأنواع المتعددة من التلوث التي تتهدد المنطقة، مؤكداً أن "البصرة من أكثر المدن تأثراً بالتلوث بمختلف أنواعه".
أوضح قاسم، أن تلوث المياه يعد من أبرز التحديات البيئية في المدينة، حيث "تتميز جودة المياه في البصرة بالسوء مقارنة ببقية مناطق العراق، وذلك بسبب مياه المجاري والمخلفات الصناعية والزراعية".
وأشار قاسم إلى أن "كمية المجاري التي تُرمى في شط العرب تقدر، وفقًا للمراقبين، بحوالي 7 متر مكعب في الثانية، وهو رقم خطير جدًا". وأوضح أن هذا التلوث يشمل مواد خطيرة مثل الكادميوم والعديد من الملوثات البيئية الأخرى التي تضر بجودة المياه في البصرة.
إضافة إلى تلوث المياه، أكد قاسم أن "أخطر أنواع التلوث في البصرة يتمثل في تلوث الهواء الناجم عن حرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط". وأوضح أن هذا النوع من التلوث يؤثر بشكل مباشر على صحة المواطنين، مشيرًا إلى أن "حرق الغاز يؤدي إلى انبعاثات سامة تضر بالجهاز التنفسي".
وفي إطار سعيه لفهم تأثيرات التلوث على الصحة العامة، أشار إلى أنه أجرى في عام 2019 بحثًا علميًا ضمن متطلبات دراسته، حيث قام بجمع عينة من 1000 مريض. ووجد أن "نسب الإصابات بالسرطان كانت مرتفعة جدًا في هذه العينة، ولا يزال الارتفاع مستمراً"، مما يسلط الضوء على العلاقة المحتملة بين التلوث البيئي في البصرة وارتفاع حالات السرطان بين سكانها.
وقال قاسم إن الوضع البيئي في البصرة يشكل تهديدًا كبيرًا على صحة السكان ورفاهيتهم، داعيًا إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للحد من التلوث وتعزيز جهود حماية البيئة في المنطقة.
البصرة: الثروة النفطية تهدد صحة السكان وسط تزايد معدلات الإصابة بالسرطان!
من نعمة إلى نقمة التلوث البيئي
نشر في: 12 نوفمبر, 2024: 12:08 ص