بول سي. دبليو. ديفيس*
ترجمة: لطفية الدليمي
لم يقتصر انسحاري بالعلم وافتتاني به على علم الفلك. كنتُ دوماً مسكوناً بمعرفة (كيف تتحرّك الأشياء؟). عندما بلغتُ السادسة عشرة قرأتُ الكتاب الصغير لآينشتاين عن النسبية Relativity وأحطتُ علماً بعض الشيء بمبدأ ماخ(1) Mach›s Principle والأحجيات الأخرى الغامضة الخاصة بالزمان والمكان والحركة. حاولتُ اختبار صبر مدرّس الفيزياء في مدرستي الثانوية، وأشهدُ أنّ اصطباره عليّ كان مدهشاً إذ تحمّل سلسلة من تجاربي الفاشلة التي أردتُ منها تصميم وعمل آلات تعمل بحركة دائمية Perpetual Motion من غير تزويد خارجي بالوقود؛ غير أنّ اهتمامي الشغوف بالديناميك كان ذا صبغة تجريدية خالصة ولا تسوّغه اهتماماتي السابقة. لسنوات عدّة قبل دراستي الثانوية أحببتُ صناعة الاقواس والسهام، والرماح والمنجنيقات، وكثيراً ما أثرتُ دهشة عائلتي ومعارفي بتصاميم غريبة (أظنها كانت حمقاء!!) لمدافع مصنوعة من الاسطوانات المعدنية التي يُحفظُ بها السيكار Cigar حيث كنتُ أعمدُ لملئها بمسحوق البارود الذي كنتُ أنتزعه من بقايا الالعاب النارية بعد تفكيكها؛ أمّا الرصاصات فكانت حينها قطعاً صغيرة منحوتة من الرخام الذي كنتُ أهذّبه بجهد صبور. المثير في الأمر أنّ مدافعي تلك لم تعمل أبداً!!. أذكرُ في زيارة لي لباريس حينها، وكانت زيارة مليئة بالإثارة، أطلقتُ طائرة ورقية من قمّة برج أيفل. وقعت الطائرة أسيرة لريح قوية منذ لحظة إطلاقها، ثم سرعان ما ارتفعت في الهواء واختفت في طبقات الجو العليا.
القسم الثاني (الأخير)
وأنا بعمر العاشرة، تركَتْ زيارةٌ لي للسيرك أثراً عميقاً في نفسي لم أزل أذكره حتى اليوم. تضمّنت واحدةٌ من أهمّ الفقرات المثيرة في السيرك أن يقوم رجلٌ معصوب العينين برمي سكاكين بشفرات حادة على إمرأة مساعدة له، ترتدي القليل من الملابس، مثبّتة مثل نسر أفرد جناحيه على لوح دوّار. كان مشهداً يبعث الرعب في القلوب من غير شك. حاولتُ تقليد فعلة رجل السيرك، وتمرّنتُ كثيراً في الباحة الخلفية لمنزلنا مستعيناً بسكين الكشافة العائدة لأخي، ومستخدماً باب السقيفة المظللة في الباحة هدفاً أستعيض به عن فتاة السيرك الشجاعة. وجدتُ الكثير من العَنَت في محاولة جعل النصل الحاد للسكين يصل الباب أولاً بدلاً من المقبض، وحتى اليوم لم أزل عاجزاً عن فعل هذا الامر بطريقة مقبولة.
لم أعترف بخيبتي أبداً في محاكاة رجل السيرك وفتاته؛ بل جعلتُ الامور أكثر تعقيداً عندما دعوتُ فتاة تدعى إليزابيث - كانت عائلتها تسكن منزلاً قبالة منزلنا عبر الشارع- لتكون فتاتي المساعدة. أعترفُ بأنّ إليزابث أبدت شجاعة غير عادية عندما ارتضت أن تقف أمام باب السقيفة وهي ثابتة الجنان تنتظر سكاكيني!!. لم أمتلك الجرأة حينها في تصويب السكين على إليزابث، وأحمد الرب أنني لم أفعل، وربما لأنني لم أفعل فإنّ إليزابث لم تزل حيّة وفي تمام الصحة، ولم تزل ذاكرتها متوقّدة، وقد أعتادت أن تقصّ عليّ كلّما رأتني بعضاً من ذكريات دورها كَـ(فتاة الاستعراض) الخاصة بي. واصلتْ إليزابث عملها وشغفها فأصبحت راقصة محترفة وممثلة مسرحية مرموقة، وكان لها دور البطولة الخالصة في المسرحية الموسيقية Barnum. ربّما يتوجّب على إليزابث الاعترافُ ببعض الفضل لي في مهنتها الناجحة.
عندما بلغتُ الثامنة عشرة إنتهى طور الهزل والألعاب البريئة العابثة في حياتي، وصرتُ مهتماً لأبعد الحدود المتاحة بكيفية تحويل أحلام طفولتي إلى واقع مهني مرئي. هذا يعني بالطبع ضرورة البدء بدراساتي الجامعية. يعرفُ كلّ الفيزيائيين أنّهم منذ بدء دراستهم يجب أن يحدّدوا وبطريقة حاسمة أيّ المساريْن يختارون: المسار النظري أم التطبيقي؟. ربما سيحدسُ كثيرون -بعدما قرأوا عن تجاربي مع صناعة التلسكوبات ورمي السكاكين على مناطق محدّدة في لوح خشبي- أنني سأختارُ الفيزياء التجريبية. للأسف ليس حدسهم صحيحاً. وجدتُ العمل المختبري أثناء دراستي الجامعية للفيزياء باعثاً على أعلى أشكال الملل الذي كان يجتاحُني سريعاً في كلّ حصة مختبرية. كانت ترتيباتي المختبرية تجري ببطء شديد، ولم تختلف كثيراً عن تجربة طائرتي الورقية في باريس أو مدافعي المصنوعة من أغلفة السيكار الكوبي. لم تنجح أيٌّ من تجاربي المختبرية. إفتقدتُ على الدوام الصبر والمهارة في تصميم الترتيبات المختبرية بطريقة مناسبة، وزدْتُ الامور تعقيداً عندما لم أمتلك المهارة في جمع البيانات المتحصلة من التجارب المختبرية بدرجة معقولة من الصحة بحيث يمكن الخروج بمعنى ما منها. كثيراً ما أخبرتُ زملائي الطلبة حينها أنني أعاني من الخوف من المختبرات Labarophobia.
انتهت محاولاتي غير المجدية مع الفيزياء التجريبية بنهاية سيئة خلال الامتحانات النهائية العملية في السنة الثانية من دراستي الجامعية. كانت الطريقة المتبعة في ذلك الامتحان أن يُترَكَ الطلّاب يوماً كاملاً في المختبر ويُطلَبُ منهم قياسُ خاصية فيزيائية ما. طُلِبَ إليّ في ذلك الامتحان قياسُ لُزوجَة الماء. كم كان الامر مضجراً لي!!. لم تُقدّمْ لنا أية استرشادات أو تعليمات للعمل. كان التحدي العملي أن تعمل على ترتيب وتصميم تجربتك مستعيناً بالمتوفّر من المواد التي زوّدك بها الممتحِنون. كانت تجربتي فشلاً كاملاً، وحينها إعتزمتُ من غير إبطاء إتخاذ خيار المسار النظري في الفيزياء. أنا تجريبي فاشل. أعترف بهذا. هل يعني هذا أنك لكي تكون فيزيائياً نظرياً ناجحاً يجب أن تكون تجريبياً فاشلاً؟ كلا. أبداً. أنا أحكي تجربتي، وأعرف كثيراً من الفيزيائيين اللامعين في الفيزياء النظرية والتجريبية وإن كان أحد المساريْن لا بدّ أن يطغى على الآخر بشكل ما. لا أعتقد بوجود فيزيائي يتكوّن من خليط متجانس بمقادير متساوية من فيزيائي نظري وآخر تجريبي.
تناغمت الفيزياء النظرية مع مزاجي الفلسفي، ومع مسعاي الحثيث في التفكّر بموضوعة المعنى والغاية في الوجود البشري. كنتُ قد إكتشفتُ الأناقة Charm التي تنطوي عليها كل نظرية فيزيائية قبل سنوات خلت عندما كنتُ لم أزل مقيماً في فينتشلي. كنتُ حينها قد أعجبتُ بفتاة فاحمة الشعر تدعى ليندساي، كانت تدرس الانسانيات فقط؛ لذا إعتادت أن تُمضي ساعات طوالاً وهي تقرأ الأدب الإنكليزي في مكتبة المدرسة. تقصّدتُ عامداً أحد الأيام أن أجلس قبالتها لأؤدّي فروض واجب بيتي تطلّب حساب المسار الخاص لكُرةٍ أطلِقت من أسفل مستوٍ مائل نحو أعلى المستوي. عندما كنتُ غاطساً في ملء الأوراق الموضوعة أمامي بالحسابات الرياضياتية نظرتْ إليّ ليندساي الساحرة بنظرة إعجاب يخالطها دهشة. سألتني:"ما الذي تفعله؟"، وبعدما أوضحتُ لها شيئاً من طبيعة ما أفعله بدت وكأنها مأسورة في متاهة لا نهائية. علّقت قائلة:" ولكن كيف يمكنك أن تخبر أحداً بموضع سقوط الكرة على المستوي المائل فقط بمجرّد كتابة بعض المعادلات الرياضياتية الغريبة على الورق؟".
أسرَني سؤال ليندساي، ولم أزل ماكثاً في قبضة ذلك الأسر حتى اليوم. حقاً يستوجبُ الامر المساءلة الدقيقة والتفكّر اليومي: كيف لنا أن نعرف (بمعنى نَصِفَ، المترجمة) أفاعيل الطبيعة مستعينين برياضيات هي في النهاية صناعة بشرية خالصة؟ إنتهى بي الأمر لرؤية معادلات الفيزياء النظرية على أنّها الحقيقة المخبوءة للكون. تَعَلّمُ اللغة الغامضة (التي أراها ساحرة كأي فيزيائي متمرّس) للرياضيات، فضلاً عن طرائقها المتنوّعة، هو ما يساعدني على ولوج العالم المدهش للقوى والمجالات الفيزيائية، والجسيمات مادون الذرية غير المرئية، والتفاعلات الفاتنة بين كل هذه الجسيمات والمجالات. إنها أرض العجائب متاحةً لمن يعرف كيف السبيلُ لفك مغاليقها بوسائله الشفرية الخاصة، وإنّي موقنٌ أنّ أرض العجائب هذه تعدُنا بالكثير من الدهشة يوماً بعد آخر مثلما تفعل السماء المرصّعة بالنجوم (لنتذكّرْ فان كوخ)؛ لكنّ الفيزياء أكثر إدهاشاً من السماء بسبب طبيعتها التجريدية. شعرتُ منذ بدايات عملي فيزيائياً نظرياً وكأنني نلتُ عضوية مجتمع سرّي يتبعُ أفراده مجموعة من القواعد الخاصة التي من شأنها أن تزيح النقاب أمامي عن واقع أكثر فتنة من الواقع الذي نعرف: واقع هو حقاً أكثر عمقاً ممّا تواضعنا عليه، وهو أقرب للروح واكثر تناغماً مع تطلعاتها وطموحاتها الكونية. ربما يمكنُ وصف هذا الواقع البديل بأنّه روح الكون. أدركتُ حينها كيف هو الشعور الذي إجتاح غاليليو ودفعه للتصريح الواضح بأنّ كتاب الطبيعة مكتوبٌ بلغة رياضياتية. إختبرتُ أنا نفسي شعوراً شبيهاً بشعور غاليليو. جوهرُ هذا الشعور أنّ الطبيعة كانت تحادثني بلغة مشفّرة، ووحدي أنا -ونظرائي من الفيزيائيين الشغوفين- من يقع عليه عبء فكّ ألغاز هذه الشفرة. أقول (عبء) ولكن الحقيقة أنه عبء مقترنٌ بأعلى أشكال اللذة.
يجد الناس عادة لذّة كبرى في ترديد حكاياتهم النوستالجية (المتخمة بالحنين) عن رغباتهم المبكرة في أن يكونوا سائقي قطارات أو جرّاحي دماغ أو روّاد فضاء عندما كانوا يعيشون سنوات مراهقتهم. من جانبي أردتُ دوماً أن أكون فيزيائياً نظرياً مع ميل طبيعي إلى الكوسمولوجيا (علم دراسة نشأة الكون وتطوّره. المترجمة)، وهذا ما فعلته. عندما أنظرُ إلى سنواتي الماضيات ليس بوسعي تخيّلُ ما كان يمكن أن أكونه باستثناء أن أكون فيزيائياً نظرياً. الجزء الأكثر مشقّة في دراستي ما قبل الجامعية تمثّل في ضرورة تحمّل دراسة موضوعات إلزامية إضافية إلى جانب الرياضيات والفيزياء. تساءلت كثيراً حينها: ما الغرض من دراسة الكيمياء أو اللغة الإنكليزية؟ كيف سيساعدان في المسيرة الاكاديمية لمن يسعى لأن يكون فيزيائياً نظرياً؟ أردتُ حينها الدخول في اللعبة الرئيسية من غير إلهاءات جانبية (يقصد دراسة الفيزياء من غير موضوعات إضافية، المترجمة). أعترفُ بأنّ النظام التعليمي البريطاني القائم على منهاج دراسي بموضوعات محدّدة ساعدني كثيراً مثلما ساعد كثيرين ممّن أبدوا نبوغاً علمياً بموضوع محدّد وصاروا لاحقاً علماء بريطانيين مرموقين ذوي صيت عالمي. عندما كنتُ في الثامنة عشرة كنتً درستُ الفيزياء والرياضيات فقط، وعندما بلغتُ العشرين تخصّصتُ بدراسة الفيزياء النظرية. أكملتُ رسالة الدكتوراه PH.D قبل أن يحلّ عيد ميلادي الرابع والعشرون. منذ ذلك الحين وأنا ماضٍ في دراسة الكون والترحال في آفاقه اللانهائية. لم أزل حتى اليوم، مثل كثير من العلماء غيري، أتطلّعُ في الكون بدهشة طفولية وأسأل نفسي:"عمّ يدور هذا كله؟". أظنني سأعرف الجواب يوماً ما.
- مبدأ ماخ (أو حدسية ماخ): في الفيزياء النظرية ونظريات الجاذبية، هو الاسم الذي أطلقه آينشتاين على فرضية تنسّبُ عادة إلى الفيزيائي والفيلسوف إرنست ماخ. فكرة المبدأ تتعلق بأن وجود الدوران المطلق يتحدد وفقا للتوزّع الكلي للمادة (ويكيبيديا).
- بول سي. دبليو. ديفيس Paul C. W. Davies: فيزيائي نظري وكاتب ومروّج للعلم وتأثيراته . ولد عام 1946. عمل أستاذاً في جامعة ولاية أريزونا ومديراً لمركز BEYOND الخاص بدراسة المفاهيم الاساسية في العلم. شغل وظائف اكاديمية في كلّ من جامعات كامبردج، لندن، نيوكاسل، أديلايد (الاسترالية). اهتماماته البحثية هي في حقول الكوسمولوجيا، ونظرية المجال الكمومية، والبيولوجيا الفلكية. له كتب منشورة عديدة منها: The Fifth Miracle، About Time، The Mind of God، The Last Three Minutes. آخر كتبه المنشورة عنوانه What is Eating the Unive صrse? (And Other Cosmic Questions) وقد نشره عام 2021. (المترجمة)
- الموضوع ترجمة للفصل المعنون (Cosmology Calls) من الكتاب الذي حرّره الكاتب جون بروكمان John Brockman وأصدره عام 2004 بعنوان :
Curious Minds: How a Child Becomes a Scientist?