ثورة 25 يناير عمل عظيم قام به شباب مصر. لم يشك البرادعي لحظة واحدة بذلك. كان هو نفسه ملهم الشباب الثائر. وكانت أهم نتائجها التحرر من الخوف واحياء الحياة السياسية التي كانت "مخنوقة" على حد تعبيره. لكن كل ما جرى بعدها كان أخطاء. فالذين قاموا بالعمل الثوري لم يعرفوا التحول الى العمل السياسي. تفرق الشبان وتحولوا الى شيع كثيرة. كان من المبكر عليهم التطهر من لوثة النخبة: غياب القدرة على العمل الجماعي ونكران الذات، قلة العقل، وقصة "أنا ليَّ إيه في العملية" متغلغلة حتى في نفوس الشباب الثائر. المجلس العسكري والقوى السياسية ثم أخيرا "الإخوان" جميعا اشتركوا بنسب متفاوتة من المسؤولية عن الادارة الخاطئة للمرحلة الانتقالية.
طرح البرادعي فكرة مجلس رئاسي وحكومة تكنوقراط لمدة عام يكتب خلاله الدستور، ثم تقام على أساسه الانتخابات. وكان يفكر بدستور على شاكلة دستور 54 من حيث المضمون ومن حيث نوعية الذين يكتبونه. كان يريد نسيان دستور 1971 الذي أسس لدولة بوليسية. دستور 54 كان متقدما وفريدا من نوعه لدولة من العالم الثالث. بل انه دستور مازال صالحا لمصر القرن21 . كتبته "مجموعة الخمسين" التي ضمت صفوة مصر في السياسة والاقتصاد والقضاء والثقافة والعسكرية، أمثال علي ماهر، عبد الرزاق السنهوري، طه حسين، أحمد لطفي السيد، مكرم عبيد، فكري اباظة، عبد الرحمن بدوي.
"الثورة" التي كلفت هذه المجموعة أهملت، بالطبع، تلك الثمرة الناضجة، حفظتها في الأدراج وجعلتها نسيا منسيا، الى أن "اكتشف" وجودها مصادفة عام 1999. لكن ذاك كان، بالنسبة الى البرادعي، هو الدستور يا جماعة!
الجماعة مشوا الى الانتخابات من دون دستور. أي بدأوا يبنون العمارة من دون أساس. الدولة عمارة أساسها الدستور. كان يرى الأخطاء تتراكم فوق بعضها، ويتوقع الانفجار الذي لا يتمناه لمصر. ولكن ليس في يده حيلة. وعندما بدأوا كتابة الدستور اعتمدوا التمثيل الأفقي، وغير العادل فوق ذلك: اي عدد كذا للعمال، وكذا للفلاحين، وكذا للشباب، وكذا للأحزاب، زائدا تكالب الاسلاميين على تحقيق أغلبية بين كُتاب الدستور. وجاء الانفجار الذي كانت مسودة "دستور الكارثة" سببه الرئيسي الثاني، بعد "الإعلان الدستوري". البرادعي يحلم بأمثال دستور "مجموعة الخمسين"، و"الجماعة" يسخرون "كَسَبَة" من أجل دستور غلبة.
"الملهم"، اذن، لم يستطع أن "يلهم" المرحلة الانتقالية. لكن مع ذلك، وكما نقول بالعراقي، "خلف الله على مصر" تقبلها الرجل، وتَقَبُل شبانها إلهامه اياهم الثورة، ثم تكليفه أخيرا قيادة "جبهة الانقاذ" في أيام الشدة هذه. في2010 كان قد بشّر بأن نزول مليون مصري الى الشارع كفيل باسقاط النظام. يقول محمد المخزنجي:"بدا ذلك لكثيرين، وأنا منهم، محض خيال نخبوي بعبق أوروبي". وفي بداية تحركه من أجل التغيير ايضا، نحو شباط 2010 ، كتب سلامة أحمد سلامة:" مشكلة البرادعي انه رجل محترم ومتحضر أكثر من اللازم في بيئة سياسية فاسدة وطاردة لأي وجه نظيف. ومشكلة البرادعي الأخرى هي أنه يخاطب شعبا تعود على الفساد والطغيان واعتاد الرضوخ في مواجهة سطوة الأمن".
أي أن البرادعي بدا للكاتب في ذلك الوقت كأمل ينبعث من فيلم سينمائي أجنبي يعرض على متفرجين مقيمين في وادي اليأس. لكن الأحداث من 25 يناير 2011 الى اليوم، على كل مراراتها الأمنية والاقتصادية والسياسية، ترينا شيئا مختلفا تماما. وادي اليأس تحول الى ملهم الأمل. مصر عادت تسمع اليوم، كما كانت تفعل قبل الثورة، لملك التغيير الزاهد في السلطة.
طوبى لأمة تصنع قدوة. طوبى لشبانها الذين أضحوا قدوة. ان ظلال الشيخ ومريديه ستطوف كثيرا في البلاد العربية.