صلاح نيازي
ماذا لو بدأت هذه المداخلة العجلى، بالبيت المشهور للربيع بن ضبع الفزاري:
إذا جاء الشتاء فأدفئوني
فإن الشيخ يهرمه الشتاء
ها نحن هنا بلندن، والبرد سيد الموجودات، حيّها وجامدها. درجات الحرارة تحت الصفر. أمّا الشيخوخة فضاربة أطنابها، ومعها يهن العظم، وتعسرالفكرة.
مع ذلك سأحاول.
عرفت نازك الملائكة يوم عادت من أمريكا لتدريس الادب العربي الحديث، بكلية التربية وكنت في الصف المنتهي. ثمّ رأيتها بعدد ذلك في عدة مناسبات حينما كانت تزور خالها رئيس قسم الاحاديث في الإذاعة العراقية، وتشملني برعاية حميمة. أكثر من ذلك كنت متابعاً بفضول لكلّ ما تكتب من شعر، حريصاً على أن لا يفوتني شئٌ منه.
كنت تصورت أنّ تلك عُدّة مناسبة للكتابة عنها. لكنْ هيهات.
قلتُ لماذا لا أدخل إلى عالم نازك الملائكة من المقدمة لمطولتها الشعرية" مأساة الحياة وأغنية للإنسان" التي تضمّ ثلاث صور شعرية لقصيدة واحدة. نُظم أولها بين عام 1945 و1946، وثانيهما عام 1950، وثالثهما عام 1965. خلال هذه السنوات نتدرج في قراءة تطور نازك ثقافياً ونفسيّاً. لكن الأهم أن ننظر إلى الملائكة لغرض هذه المداخلة على أنها جزء أساس من النهضة الشعرية بالعراق،
إذْ إليها يُعزى انتشار شعر التفعيلة.
عزا نزار قباني انتشار الشعر الجديد إلى الشياطين العراقيين، يقصد الشعراء.قلت النهضة الشعرية عن عمد، ولم أقل الحركة، لأنها تجاوزت ترتيب التفاعيل العروضية الفراهيدية، وتنويع القافية، وإنما شملت موضوعية شعرية لم تطرق من قبل في الشعر السلفي. أي أنها انسلخت من أبواب الشعر من حماسة ومدح وهجاء ورثاء…في العادة ما أن تُذكر نازك الملائكة، إلا ويذكر معها بدر شاكر السياب. صنوان. كلاهما يدير دفّةً
جديدة في كتابة الشعر. كلاهما يقرأ الشعر الإنكليزي بلغته الأصلية. كلاهما تأثر تأثراً كبيراً بالشاعر المصري علي محمود طه، لدرجة جعلت منه الملائكة أمثولة منزّهة.
بما انني عاصرت نهضة الشعر بالعراق أولا بأوّل، لذا سأجوّز لنفسي إضافة آسمين لامعين،أوّلاً لموهبتهما الشعرية، وثانياً لأنهما استلهما الشعر الأجنبي. أيْ أنهما طعّما أنساغهم الشعرية بنكهة إنكليزية. فأكرم الوتري مثلاً (1930-2013) كان يتقن اللغة الإنكليزية، والألمانية، والفرنسية.ترجم عن الإنكليزية، ديوان "جني الثمار" Friut gatherers لطاغور، كما ترجم كتاب "النظرية المحض" لهانس كلسن، بالإضافة إلى أطروحته باللغة الفرنسية، ونشرت1996.
لأكرم الوتري ديوان يتيم عنوانه "الوتر الجاحد"، نُشر ببغداد عام 1949. في هذا الديوان بوادر القصيدة الموضوعية، ربما لأوّل مرة في الشعر العراقي، وهذا ما يميزه عن الشعراء الآخرين، فهو إنْ بذر لوناً مثلاً في بداية القصيدة، فإنه سيتابع
تدرجاته لوصف الحالات النفسية. القصيدة بين يديه عضوية. نامية.
لا بدّ من ذكر الشاعر الرابع محمود البريكان، فهو بالإضافة خطاط ورسام. سئل مرة عن الشعراء الذين يفضلهم، فذكر عدة أسماء أجنبية كطاغور الذي قال عنه: "شاعر حقيقي عميق الروح وريلكة الذي وصفه بأنّه "يتميّز بالتعبير عن قلق الروح و تي. أسْ. إليوت، ومسرحيته الشعرية "مقتل في الكاترائية"، ولم يذكرْ شاعراً عربياً. على هذا لم تكن النهضة الشعرية بالعراق مجرد كسرٍ لتكلّس الوزن والقافية ومحدودية الموضوعات.
إنما استيلاد موضوعات فنية مختلفة. مع هذا يمكن القول إنّ هذا التجديد، لم يأتِ عرضاً، أو out of the blue فقد ظهرت قبل ذلك مجلة ابولو التي أسسها الشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي، وكان لها أكبر الأثر في الدعوة
للتجديد ترجمة وتأليفاً. صدرت مجلة ابولو عام 1932 واحتجبت عام 1934. مثلاً نشرت هذه المجلة الرائدة عام 1934 أوّل قصيدة من شعر التفعيلة. ذكر بدر شاكر السياب، في إحدى المناسبات أنه تأثر بترجمة علي أحمد باكثير لمسرحية روميو وجوليت شعراً منثوراً. نازك نفسها اجترحت مأثرتين فنيتين. من جهة إنها رائدة قصيدة التفعيلة، ومن جهة أخرى منظرة لها.ضمّنت مثلاً ديوانها "شظايا ورماد" الصادر عام 1949عشر قصائد من الشعر الحرّ.
قد تكون نازك الملائكة، وهي المرأة المنحدرة من عائلة محافظة، أوّل شاعرة منذ العصر العباسي،تعبر عن مكنوناتها العاطفية وإنْ برموز. قبلها كان الشعراء الرجال هم الذين يعبرّن عن مشاعر المرأة.
وبذلك باتت امثولة للفتيات العربيات في التعبير عن خوالجهن، او كما يقال بالانكليزية Trailblazer.يبدو أننا لو أردنا تتبع تطور الملائكة النفسي والثقافي والفلسفي فلا بدّ لنا من قراءة المقدمة التي خصّتْ بها ديوانها المعنون "مأساة الحياة وأغنية للإنسان".
كتبت الملائكة هذه المطولة الشعرية عام 1945 يوم كان عمرها اثنين وعشرين عاماٍ.
تقول الشاعرة إنها في تلك السن اليافعة: "كنتُ أُكثر من قراءة الشعر الإنكليزي، فأُعجبت بالمطولات الشعرية… وأحببت أن يكون لنا في الوطن العربي مطولات مثلهم". تقول الملائكة عن هذه المطولة: " آخترت لهذه المطوّلة بحراً عروضيّاً مرنا هو بحر الخفيف الذي يجري بين يديّ كما يجري نهر عريض بأرض منبسطة وقد بلغت القصيدة ألفاً ومائتي بيت نظمتها في ستة أشهر تقريباً…"
وتقول:" كانت القصيدة الأولى من مأساة الحياة صورة واضحة من اتجاهات الرومانسية التي غلبتني في سنّ العشرين… وكان من مشاعري إذْ ذاك التشاؤم والخوف من الموت".
أعادت الشاعرة النظر في هذه المطوّلة فكتبتها بأسلوب جديد، فأصبحت قصيدة ثانية تختلف في كلّ لفظة منها عن القصيدة الأولى فوهبتها عنواناً جديداً "أغنية للإنسان".
عادت الشاعرة بعد عشرين عاماً إلى القصيدة فأصبحت نسخة ثالثة. تعترف الملائكة:" لست أوّل من تعتريه هذه الحالات الشعرية في سنين مختلفة، فإن الشاعر الإنكليزي جون كيتس مثلاً نظم قصيدة عنوانها Hyperin تناول فيها سقوط الآلهة الأوائل في الميثولوجيا اليونانية ونشرها في مجموعته الشعرية الصادرة عام 1820 ولكن بعد سنوات شعر أنّ ذلك النص لم يعد يمثل أسلوبه
فعاد ونظم منه نسخة ثانية اسماها سقوط Hyperin.. مع ذلك لم تنفرد نازك الملائكة بالقصائد المطولات، فبدر السيّاب كان لها منافساً. هما فرسا رهان. فكتب ثلاث مطولات:" المومس العمياء، وحفار القبور، والأسلحة والأطفال"
حظيت مطولات السياب بشعبية أوسع نظراً لموضوعاتها الاجتماعية ودلالاتها السياسية.أصبحت كتابة المطولات بفضل هذين الشاعرين تقليداً انتهجه جلّ مجايليهما تقريباّ ومعظم الشعراء الذين جاؤوا بعدهما في الخمسينات
من القرن الماضي.
شكراً لمنظمي المؤتمرعلى دعوتهم لي، وإن كانوا أثاروا الشجون. حقّاً ما قاله الروائي الإنكليزي هارتلي: " الماضي وطن غريب"
أو ربما هو أيضاً وهم واقعي.
عُرضت هذه المداخلة المسجلة صورة وصوتاً في مؤتمر" مئوية الشاعرة الرائدة
نازك الملائكة "الذي أقيم على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب -الدورة55
في2024 بإشراف الأديب العراقي د. قحطان الفرج الله
مئوية نازك الملائكة
نشر في: 18 نوفمبر, 2024: 12:03 ص