TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > السرد وأفق الإدراك التاريخي

السرد وأفق الإدراك التاريخي

نشر في: 19 نوفمبر, 2024: 12:02 ص

إسماعيل نوري الربيعي

جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية، فيما يتعلق بالعمليات التي تستطيع من خلالها المجتمعات، بدراسة ومراقبة ماضيها وتفسيره. يدافع لوغوف عن الذاكرة باعتبارها أحد الاهتمامات الأساسية في السرد التاريخي. ويناقش كيف تشكل الذكريات الجماعية الهوية والوعي الجماعيين، بينما يزعم أن فهمنا للأحداث في التاريخ غالبًا ما يتسرب عبر التجارب المعاصرة والسياقات الثقافية. إنه يعمل على تفعيل المناقشات الأوسع نطاقًا داخل التأريخ، حول الطبيعة الذاتية للتفسير التاريخي. ويتناول التوتر بين الحقيقة التاريخية وبناء السرد، ويعمد نحو طرح أسئلة حول الموضوعية في التاريخ. يكشف لو غوف عن الكثير من حرفة المؤرخ، ويبرز التعقيدات في فهم الأحداث الماضية، إذا كان التاريخ ليس مجرد سجل للأحداث، بل هو سرد يتشكل حول الذاكرة والوعي. في المجمل، يظل عمل لوغوف ذو أهمية خاصة لفهم كيفية تشكل الوعي التاريخي، والتأثير على تصورنا للتاريخ. وظلت جهوده المعرفية، مساهمته ثابتة في المناقشات المعاصرة حول التأريخ ودراسات الذاكرة وفلسفة التاريخ.
تمثيل التاريخ
لوغوف يعد واحدا من أشهر أعضاء مدرسة الحوليات، وهو يتتبع تطور الفكر التاريخي من العصور القديمة إلى الحداثة، ويعمل على مناقشة ثقل الماضي وتمثيله الحالي من خلال الذاكرة الجماعية. ويصرعلى أن الذكريات الجماعية تغذي الهوية والوعي الجماعيين. ويزعم أن الأحداث التاريخية كثيراً ما تُدرك من خلال التجارب المعاصرة، والسياقات الثقافية التي تجعلنا نفسر التاريخ ونتذكره بهذه الطريقة أو تلك. وهذا يجعل التفسير التاريخي ذاتياً ويزيد من توتر العلاقة بين الحقيقة التاريخية وبناء السرد. ويؤكد على أن مشكلة الذاكرة تكمن في صميم السرد التاريخي، والتي تملي من خلالها كيف تتصور المجتمعات ماضيها وتفكر في وعيها التاريخي. ويؤكد عمله على الصعوبة التي يمكن بها فهم التاريخ، ليس فقط باعتباره توثيقاً للأحداث، ولكن باعتباره سرداً مؤلفاً من الذاكرة والوعي. تختلف تصورات التاريخ وإدراكه بين الثقافات، وغالباً ما يكون ذلك في ما يتصل بالتقاليد والقيم والهياكل الاجتماعية الراسخة في وقت معين. ويناقش هذا الاختلاف حيث يركز بشكل عام على التقاليد الشفهية والمكتوبة. ويؤكد أن الذكريات الجماعية تشكل أسساً بالغة الأهمية للهوية الجماعية والوعي التاريخي. وفي رأيه، كثيراً ما يتم تصفية معرفة الأحداث الماضية من خلال مجموعة من التجارب المعاصرة، والسياقات الثقافية التي تشكل المفاهيم حول كيفية تفسير التاريخ وتذكره. وهذا يؤكد على الطابع الذاتي للتفسير في التاريخ والتوتر بين الحقيقة التاريخية والبناء السردي. على سبيل المثال، في عدد كبير من المجتمعات التقليدية التي تفتخر بتراث شفوي غني، يتم نقل التاريخ من خلال القصص والأساطير والحكايات. وهذه الأشكال عنيدة ومتغيرة وقد تتغير مع الوقت لتعكس قيم وتجارب مجتمع معين. ومن ناحية أخرى، فإن الشكل الأكثر شيوعاً لتسجيل التطورات التاريخية في الثقافات ذات التقاليد المكتوبة، هو في شكل سجلات وأعمال علمية. وهذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى تفسير أكثر ثباتًا للتاريخ، في حين أنه من المعروف في نفس الوقت، أنه يوفر تفاصيل أكثر للحفاظ على الأحداث.
تشكيل الوعي
يؤكد لوغوف أن الذاكرة هي المشكلة الفعلية للسرديات التاريخية، فهي تحدد كيف تفكر المجتمعات في ماضيها وتشكل وعيها التاريخي. ومن هذا المنظور، فإن اعتباراته تفتح الباب أمام تعقيدات التاريخ باعتباره فهمًا، وليس مجرد سجل للأحداث بل سردًا تحدده الذاكرة. ووفقًا للوغوف، فإن الذاكرة الجماعية هي التي تساعد في تحديد ما تتذكره المجتمعات من ماضيها. فهي مبنية على الممارسات الثقافية والقصص والتفاعلات الاجتماعية، وليست مجرد انعكاس للأحداث التاريخية. ويضع هذا البيان في الاعتبار فكرة مفادها أن التاريخ يجب أن يكون مرتبطًا بالقيم، والمعتقدات المعاصرة حتى يكون إرث ماضيهم وظيفيًا وتمثيليًا بطبيعته. يميز لو جوف بين أنواع الزمن الخطي والدوري. كانت المجتمعات في العصور الوسطى ترى الزمن دوريًا، وهو ما شكل وعيها التاريخي. وكان هذا على النقيض من حقيقة أن الحداثة كانت تدرك الزمن خطيًا، وترى التاريخ كتقدم أو انحدار. فيما يتم التأكيد على المكانة التي تحتلها الرموز والأساطير في تكوين الوعي التاريخي. هذه هي الأدوات التي يستخدمها المجتمع لإعطاء أهمية لتاريخه وهويته. يمكن لوظائف الرموز من خلال استخداماتها المتعددة أن تقترح فهمًا للنفسية الجماعية للمؤرخين. لوغوف يركز على النهج متعدد التخصصات للتاريخ، ويجمع في أعماله بين معرفة علم الاجتماع وعلم الإنسان وعلم النفس. باعتبار البحث عما يوسع أفق الإدراك التاريخي، خارج حدود السرديات السياسية أو العسكرية ويسمح للمرء بفهم أفضل لكيفية ارتباط الناس بماضيهم. ولا يتردد عن توجيه النقد نحو التأريخ التقليدي، لتركيزه على الأحداث السياسية والشخصيات العظيمة، على حساب الخبرة اليومية وذاكرة عامة الناس. ومن خلال نقل هذه الرؤية إلى التاريخ الاجتماعي، يدعو لوغوف المؤرخين، إلى تحويل أنظارهم نحو الطريقة التي تخلق بها التجارب الجماعية للسرديات التاريخية.
تفاعلات الوعي والذاكرة
هناك علاقة تفاعلية بين الوعي والذاكرة،حيث يؤثر أحدهما على الآخر عندما يتعلق الأمر بتشكيل، كيفية فهم المجتمعات لماضيها وبناء هوياتها. يمكن تلخيص تعبيرات الوعي والذاكرة، على أنها وعي التاريخ وتفسيره، في حين تصف الذاكرة الجماعية الذكريات المشتركة لمجموعة تؤثر على الهوية والاستمرارية الثقافية. تؤكد آراء لوغوف حول الوعي التاريخي على دوره في ترسيخ الهوية في المجتمع. ووفقًا له، فإن الوعي التاريخي ليس مجرد مسألة تذكر الحقائق، بل هو جهد لفهم نقدي للماضي بهدف الحصول على معنى للحاضر والمستقبل منه. غالبًا ما يتبين أن هذا الفهم النقدي عبارة عن ذاكرة مع اختيار، وفقًا لذلك يتم التأكيد على جوانب معينة من التاريخ، بينما يتم التقليل من أهمية جوانب أخرى أو نسيانها؛ وبالتالي التأثير على الذاكرة الجماعية. يمكن القول إن جاك لوغوف أثبت أن اعتماد الوعي التاريخي على الذاكرة الجماعية، يتدفق في كلا الاتجاهين. حيث لا توجد نقطة يمكن عندها للوعي التاريخي أو الذاكرة الجماعية، العمل بشكل مستقل دون التأثير على الآخر وتغييره. وهذا يعني أن الذكريات الجماعية، رغم تأثيرها على السرديات التاريخية، معرضة في حد ذاتها لإعادة التقييم في أي وقت. والآن، في ظل هذه العلاقات المعقدة المتبادلة، لا بد أن يكون فهم التاريخ والذاكرة أمراً حاسماً في بناء المفاهيم الحديثة عن أنفسنا ومجتمعاتنا.
التجربة والسياق الثقافي
تلعب الذاكرة دورا تأسيسيا في الطريقة التي تتشكل بها السرديات التاريخية والهويات الجماعية. وفي حين يصر لوغوف على أن الذكريات الجماعية هي العوامل الحاسمة في الهوية والوعي التاريخيين، فإنه من الضروري أن نكرر أن الذكريات الجماعية ليست ثابتة بأي حال من الأحوال. فهي تتغير مع التجارب المعاصرة والسياقات الثقافية، في حين تؤثر هذه التغييرات نفسها على التاريخ وتذكره. وهناك تسجيلات وتمثيلات للماضي، والتي تختلف بين الثقافات. وبالنسبة للثقافات القائمة على النتاج الشفوي، كان التاريخ ينتقل بدقة من خلال رواية القصص التي تنتقل من جيل إلى جيل في الأساطير والخرافات. وهذه القصص سائلة وكثيراً ما تكون متنوعة، لأنها تعكس تطور قيم وتجارب الناس في المجتمع. وفي حين سيطرت التقاليد المكتوبة على ثقافة بيئة معينة، فقد نجحت في بلورة الأحداث في أشكال السجلات والمنجزات العلمية، وبالتالي السماح بعرض أكثر ثباتاً للتاريخ. في هذا الصدد، يصبح تسجيل الأحداث ممكنًا بتفاصيل كبيرة. يناقش لوغوف وضع التوتر بين الحقيقة التاريخية وبناء السرد، مدركًا الطبيعة الذاتية للتفسير. ويشيرإلى أن فهمنا للأحداث التاريخية يتم تصفيته عدة مرات من خلال المرشحات المعاصرة، وبالتالي، فإن الموضوعية في التاريخ غير قابلة للتحقيق. ولا يتردد عن تفحص المناقشات الأكبر التي تكمن في التأريخ حول دور الذاكرة في السرد التاريخي. وكما يزعم، فإن كل إدراك للتاريخ بعيد كل البعد عن وصف حدث؛ بل يتعلق ببناء السرد من خلال استخدام الذكريات والوعي. حيث تبقى الذاكرة مسؤولة عن تشكل وجهة نظر المجتمعات تجاه ماضيها وبناء وعيها التاريخي. حيث تؤكد هذه العلاقة على الطبيعة الذاتية لتفسير التاريخ، والمناقشات في التأريخ فيما يتعلق بالموضوعية وبناء السرد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: عجائب وقفية !!

البريكس.. عيون عراقية

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram