فريدة النقاششيخ الطريقة الذي أجلسني بجواره في إحدى حلقات الذكر في مسجد الحسين قال لي: (اعرف الفارق بين العلامة والأثر).. ثم يضيف الشيخ (إن الفارق مثل ما بين الحياة والآخرة فاتبع العلامة، واترك الأثر.. كلنا نبي نفسه، فالبس رداء تقشفك، واترك الناس تتبع أثرك).وهناك صندوق يضع فيه (أدهم صبري) الراوي في رواية أثر النبي (لمحمد أبوزيد) كتبا وصورا قديمة وقصاصات صحف.. ويتساءل هل هذا الصندوق هو أثري الذي سأتركه أم علامات مرت؟ فهل يبحث صاحبنا عن خلود ما هو التواق إلى السفر، الحالم بالطيران (فارداً ذراعي كلاعب سيرك يخاف من السقوط أرفع يدي لأعلى لكنني لا أطير يا زينب).
(زينب) هي الحاضر الغائب لا تطل علينا أبدا في الرواية لكنها ملاذ صاحبنا الطالب الذي ينتقل من مكان بائس لآخر أشد بؤسا يهرب (من عالم ضيق، فأجد العالم يضيق أكثر) عالم يقف على أظفاره في انتظار أن تدق الشرطة الباب في أي لحظة (احتمال أن يرجعوا مرة أخرى، يدقوا الباب فيقتلوني حين يجدونني وحيدا).. فنحن أمام مدينة بلا قلب وبوسعنا طوال قراءة النص أن نستعيد الديوان الأول بهذا الاسم للشاعر (أحمد عبد المعطي حجازي) كما نستدعي قصيدته (لا أحد) ففي هذه الرواية الشعرية (الغرباء يموتون هنا دون أن يحس بهم أحد)، ومعظم شخصيات الرواية هاجرت من الريف إلى هذه المدينة الموحشة التي لم يجدوا فيها سوى القهر والقمع على كل المستويات وطنية حيث ينتهي القص بالغزو الأمريكي للعراق، وشعور الجميع بقلة الحيلة إزاءه، واجتماعية حيث الرزق الشحيح والمساكن الخانقة والأحلام المجهضة، وروحية حيث التمزق بين حلم الشخصية الراوية بالطيران وضغوط الإخوان المسلمين الذين يحرمون القصص وكل أشكال الفن، ويحلق الموت بين هذه العوالم كلها كأنه طائر الرخ، فمن موت حقيقي (لعادل هياكل) زميل السكن الذي وصفوه هذا الوصف بسبب مرض السل الذي أكله إلى الكتب (عن عذاب القبر) وعلامات الساعة الصغرى التي يعطيها له الرجل المكلف بتجنيده لحركة الإخوان.. ويجد الراوي أنه بذلك يخرج من نفسه الحقيقية إلى نفس أخرى (أتخلى عن وجهي وأرتدي وجها آخر)، بينما تبدأ الرواية (بالدم) في فصلها الأول حيث ينزف عادل وتنتهي بتصريح بالدفن أي أننا بصدد بنية دائرية تبدأ بالموت وتنتهي من حيث بدأت.ولمثل هذه البنية دلالات كثيرة، فهي اغتراب حيث يدور الراوي حول نفسه، وهي انغلاق دائرة القمع واللوعة التي تعيشها الشخصيات في بحثها المضني عن ثغرة، وذلك كله على خلفية من الكدح موت الأم وتسلط الأب وزوجته.تنفتح ثغرة في الدائرة المغلقة فقط في حالة التصالح مع العالم التي يجريها الراوي أثناء غزو أمريكا للعراق واندلاع المظاهرات الاحتجاجية (كنا نوصل الطعام يوميا إلى الطلبة المحاصرين وأشعر بأنني قد بدأت أتصالح مع الناس.. مع الشوارع) إنه التصالح الذي يتم فحسب في حالة الفعل الإيجابي من أجل هدف كبير يتجاوز الأشخاص.يلجأ الكاتب إلى السخرية حين يتعامل الراوي بمنتهى الجدية مع (حجازي) رفيقه في السكن الذي تخيل أنه ممثل وقام بدور (ضجيج في المقهى)، ولكننا أيضا سوف نبتسم ساخرين حين يخبرنا أنه كان يقرأ في المترو والباص والترام ونحن نتساءل كيف كان يفعل ذلك حقا؟نحن بصدد نص أدبي جميل مفعم بالمشاعر كتبه شاعر فيه اكتناز وكثافة في اللغة الآسرة بادئاً بالمعرفة كألم في مفتتح الكتاب يقول في مناجاته (لزينب) التي هي قارب نجاته (هنا خنتك يا زينب، أنا الذي أعرف كل شيء، وأنت التي لا تعرفين، أتذكر فأتعذب) ويتشبع النص بمقتطفات من أشعار الصوفية إضافة للتاريخ المكثف للصمود أمام العدوان الذي يحكيه محمود المليجي في فيلم (الأرض) كمقدمة لفصل الحرب.يستطيع (محمد أبوزيد) أن يطمئن بعد روايته الشعرية تلك إلى أنه ترك أثراً حتى وهو (ينتقل من شارع لآخر كتابع يبحث عن نبيه) فهو نبي نفسه كما قال له الشيخ وحتى بعد أن أصبح حلم الطيران جريا في الطرقات اتقاء للألم وبحثاً عن معنى.
أثر النبي.. الشاعر روائياً
نشر في: 26 يناير, 2011: 05:46 م